حدث الهجرة
الهجرة النبوية علامة فاصلة بين حياتي الاضطهاد والجهاد، بين حياتي الكبت والانفتاح.
لقد عاش المصطفى، صلى الله عليه وسلم، في مهد ولادته، ومهبط وحي الله تعالى، وحَرَمِ الله الآمن، الذي أمن فيه الشجر والحيوان، فضلا عن بني الإنسان، حرم الله الذي اختار لسكناه أشرف القبائل نسباً وأعرقها حسباً،ليكونوا سدنة بيته، وحامي حماه، هذا الحرم الذي كانت إليه هجرة سيدنا إبراهيم أبي الأنبياء عليه السلام؛ ليقوم بمهمة أمره الله بها؛ وهي أن يبني له بيتاً يحجه الناس، فيخلصون له التوحيد والإنابة، ويكون مهوى أفئدة البشر، يرفع فيه اسمه، ويؤذّن فيه له سبحانه بأن لا شريك له ولا ونظير، ولا مشير ولا وزير، بل إنه إله واحد ورب شاهد، فرد صمد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، هكذا أراد الله تعالى من عباده، غير أن الوثنية الجاهلية أبت إلا أن تكون اللات والعزى شريكين لله الواحد القهار، حتى تأصلتا فيهم، فلم يكن في قلوبهم متسع لغيرهما، فحينما أتاهم سيدنا محمد بن عبد الله، وهم يعرفون نسبه وحسبه وصدقه وأمانته وعفته، وقد تربى بين ظهرانيهم، بحيث لم يكن معروفاً لديهم إلا بالصادق الأمين، لا سيما وقد بلغ أشده وخرج عن حد العمر الذي يمكن أن يكون للنفس فيه هوى، فكان ذلك جديراً بأن يكون مرحباً بدعوته واتباع ملته، لاسيما أن لديهم من نبأ المرسلين من أهل الكتاب، وأخبار الكهان ما يرشح صدق الدعوة، ظل ينادي فيهم صباحاً ومساء أن يقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله ليفلحوا، فأبوا إلا أن يشركوا بالله الواحد القهار، فما كان لهذا الرسول المجتبى الموكل إليه البلاغ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور ومن الظلام إلى الهدى، إلا أن يستبدل بهم غيرهم ممن هم أهل لحمل الرسالة وشرف الحماية، من قوم تحلوا بمكارم النجدة والحماية من الأوس والخزرج فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أن هلم إلينا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا، وفي رواية: نمنعك مما نمنع منه أُزُرَنا، والعرب تكني عن المرأة بالإزار، وتكني به أيضا عن النفس،لا لشيء إلا لأنهم عرفوا فيه الصدق، وأنه الرسول الذي كانت تستفتح به اليهود،وتتوسل به لله تعالى أن ينصرهم به على أعدائهم، فيقولون :اللهم انصرنا عليهم بالنبي المبعوث في آخر الزمان، كما حكى الله تعالى عنهم بقوله: (وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذِينَ كَفَرُوا) فأرادوا أن يكون لهم قدم السبق في نصرته وحمايته؛ لتكون لهم الجنة كما اشترطوا عليه صلى الله عليه وسلم عند بيعة العقبة، فماذا حدث بعد هذه الهجرة المباركة؟ لقد تغير وضع العالم وليس الجزيرة العربية فحسب؛ تغير من وضعه الجاهلي والوثني والشركي، فأصبح دين الإسلام الذي ارتضاه الله لعباده وخلقهم من أجله وبعث به الأنبياء والمرسلين، يسري بين الناس كسريان الماء في العود الأخضر، الإسلام الذي لا يقبل الله دينا سواه، ولا يَصلُح للبشرية غيره، ولا يُصلِح البشرية إلا هو، هذا الإسلام ما كان له أن ينتشر لولا هذه الهجرة المباركة التي حمت رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى بلغ الرسالة وأدى الأمانة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.