من المجالس
بلا صخب، تحتفل أمة الإسلام اليوم بذكرى الهجرة النبوية الشريفة. ولكن الهدوء، لكي يؤتي نتائجه المرجوة، يتطلب السكينة. والسكينة تستدعي التأمل والاختلاء بالذات، فردية كانت أم جماعية، والتأمل يعني المراجعة بهدوء الدارس، وسكينة المتأمل، وصبر الباحث الفاحص.
الهجرة لم تكن حدثاً عابراً، وفصولها لم تحدث من وراء الذاكرة البشرية، وإنما كانت فعلاً ملحمياً غادر الحال إلى غير الحال، وهجر الواقع ليجعل مكانه واقعاً آخر، ورحل عن المكان ليعيده إلى حوزة الحق والفضيلة. فقد حدثت الهجرة بمنطق الإقبال على التغيير من دون اندفاعات المتهورين، وعلا صوتها في كل أرجاء الكون من دون أن يصم الآذان، بل فتح قنواتها بأسلوب علاجي لم يستغن عن الجراحات عندما احتاجت الفضيلة لمن يذود عنها، ولكن اتجه في الأساس إلى النفوس ليكشف لها حقيقة رقيها الذي أضاعته بروح التبعية، واستلم القلوب ليقلبها على الحق المبني بعيداً عن الباطل المهني.
لذلك، فإنه إذا صح لنا وصف الهجرة كحدث بأنه إعلان صاخب لهجر الباطل إلى الحق، فإنه في الوقت نفسه لم يقف عند الاعلان فقط، ولم يكتف بحالة الصخب لتكون مؤقتة، وإنما روّض الصخب وربطه بمفهوم التغيير كثقافة عامة تنبذ عشوائية الصخب، وتختار التأمل والمراجعة الدائمة كثقافة تستعين بها على تقلبات الدنيا وتحولات الزمن.
عندما استقرت تلك الثقافة في نفوس شركاء الهجرة حدث التغيير في الواقع على جميع المستويات، فأنتجت مجتمعاً راقياً استطاع في فترة زمنية خاطفة أن يجعل من المدينة المنورة مركز الأرض وعنوان مستقبلها، وأن ينقل القيادة البشرية، على حد وصف الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، من بني إسرائيل إلى بني إسماعيل، وذلك بأداة الفضيلة، وآلة الرحمة، ومنطق الحق، وليس بجحافل الغزاة.
هذه الرسالة، التي وصلت أرجاء الأرض في زمن بلا وسائل اتصال حديثة وسريعة، يمكن أن تجتاح قلوب الآخرين اليوم من دون الحاجة إلى خطاب من يقولون ما لا يفعلون، وإنما باستحضار الهجرة داخل النفوس، وإسكانها في غرف القلوب، وإسقاطها على أنماط السلوك، عندها سيرى العالم أن الإسلام دين الحق، وأن المسلمين هم دعاة الحق، وأن الحق أحق أن يُتّبع.