من المجالس
مثلما تمت تجزئة الأرض العربية والأقطار العربية، تحدث الآن تجزئة الفكر العربي والانتماء العربي، لتصبح الشؤون الداخلية شأناً إقليمياً وعالمياً، تدخل بموجبه أطراف عربية ووطنية داخل القطر الواحد في تحالفات مع أطراف خارجية ضد أطراف وطنية أو محلية أخرى. فقد ضاق أفق المصلحة حتى يزاحم نفسه.
هذه الفسيفسائية أصبحت لسان حال الواقع العربي الذي التبست عليه مفاهيم المصلحة، واختلطت عليه لعبة السياسة، فصار- بعد مرحلة عدم الاكتراث- إلى مرحلة الانسلاخ والقبول بقواعد لعبة الكراسي. وهذه اللعبة حتماً ستنتهي بوجود كرسي واحد يتسع للاعب واحد، وغالباً ما يكون هذا اللاعب هو الأقوى والأذكى. ولا يوجد في الواقع العربي المعاصر ما يشير إلى وجود لاعب عربي يتمتع بتلك القوة وذلك الذكاء اللذين يجعلانه الفائز الأخير باللعبة.
أحداث غزة تجري، بدمائها وأشلائها وأنقاضها وحرائقها وصرخاتها وآهاتها، في إطار من تلك اللوحة الفسيفسائية التي بدأت قبل عقود بمنطق تغليب الوطني على القومي، فتدحرجت أفكارها لتقسم الوطني إلى أشطر. وصار كل شطر قابلاً للانشطار، وكل شطر يفكر بمنطق الأمة وبحجة أنه الأمة.
في غزة الآن يرتكب الصهاينة جرائم يتابعها العالم على الهواء مباشرة، تختلط فيها الدماء بالدموع، وصرخات الألم بزفرات القهر. ويزداد الظلم البشري بغياً وبطراً إلى درجة تحميل الشقيق لشقيقه القتيل مسؤولية مقتله، وإلى مستوى مباركة صناع بضاعة الديمقراطية وحقوق الانسان العدوان تحت طائلة الخطر العربي الذي يهدد العرب أنفسهم قبل غيرهم، والخطر الفلسطيني الذي يستهدف الفلسطيني أكثر من الإسرائيلي.
هذا الفكر هو الذي يتسيّد العقل العربي الآن في معظم قناعاته ومواقفه. وإذا كانت غزة اليوم تبدو بضخامة مشهدها وعظيم صخبها، فإنها بنتائج هذا الفكر المتكسر لن تكون سوى فصل صغير في كتاب كبير، بدأت كتابة فصوله منذ زمن ليس بقريب.