الفصل بين الخيطين الأبيض والأسود!
لم ولن أطالب الموظفين بأن يكونوا مثل عمر بن عبدالعزيز الذي سطّر أروع الأمثلة في مسألتي عدم استغلال المال العام، والفصل كل الفصل بين المصلحتين العامة والشخصية. كما لن أطلب من أي موظف عام، تقديم استقالته لو ثبت استغلاله لمال عام من أجل مصلحة شخصية «بسيطة»، تماماً كما فعل المسؤولان الحكوميان الألمانيان، اللذان استخدما «أميالاً جوية» لرحلات رسمية في إصدار تذاكر سفر خاصة لهما. بالتأكيد لا أريد من الموظفين الورع والتقوى إلى هذا الحد، لكن على أقل تقدير تطبيق أخلاقيات المهنة والوظيفة في كل الخطوات التي يقومون بها داخل المؤسسة وخارجها.
عندما تحدثت عن «أخلاقيات الموظف العام» في مقال سابق، وضعت بعض الأمثلة البسيطة جداً عن أخطاء نقوم بها جميعاً من دون أن نشعر، مثل إرسال رسالة خاصة من فاكس العمل، أو استخدام الكمبيوتر لأغراض شخصية، لكن لم أكن أريد إثبات أن هذه التصرفات بعينها هي الخطأ، وما سواها صحيح، الأمثلة كانت وفق قاعدة «ما أسكر قليله فكثيره حرام»، نعم هذه أمور بسيطة وسهلة، وربما لا تؤثر في ميزانيات الدوائر أو الوزارات، ولكن ما أعنيه لا شك في أنه يشمل جميع الأشياء الأخرى التي يعرفها معظمنا، فأشكال استغلال المال العام، والوظيفة العامة، والمنصب الحكومي، كثيرة ومتعددة ولا يمكن لي أن أحصرها في مقال أو مقالين أو حتى كتاب أو كتابين!! المسألة واضحة كل الوضوح، ولا مجال لوجود منطقة رمادية بين العام والخاص، المال العام معروف، وما يسمح للموظف باستخدامه بصفته الوظيفية لا الشخصية، أيضاً واضح وضوحاً تاماً، لكن هناك من يتعمد توسيع دائرة المنطقة الرمادية حتى يستفيد من إمكانات الدائرة لتسهيل أموره وأمور عائلته أحياناً! المسألة لا تقتصر على فاكس أو هاتف أو كمبيوتر من دون شك، كما أنها لا تقتصر على درجة وظيفية معينة، بل إنها تتزايد كلما زادت الدرجة الوظيفية، لأن السلم الوظيفي يعطي الصلاحيات كلما اتجه الموظف للأعلى، وبالتالي إمكانية استغلال الوظيفة والمال العام تتضاعف كلما ترقّى الموظف إلى الأعلى. من هنا يجب ألا تهمل هذه القضية، كما يجب ألا تترك وفق «أخلاق» الموظف العام، فإن كان متأثراً بعمر بن عبدالعزيز التزم وحافظ على الممتلكات العامة، وإن كان من جماعة «مال عمك ما يهمك» استغلها بأشكال مختلفة. المسألة بحاجة إلى «مواثيق مكتوبة» و«أخلاقيات عامة» مطبوعة توزّع على جميع الموظفين لقراءتها والتوقيع عليها، ومن ثم متابعة تطبيقها، وذلك لوضع حد فاصل لهذه القضية التي تخضع الآن للمزاج العام، ولا شك أن المزاج العام هذا يفقد الدولة كثيراً من مكتسباتها ومقدراتها التي تضيع لخدمة أغراض لا علاقة للحكومة فيها من قريب أو بعيد.
«الميثاق العام لأخلاقيات الموظف العام» خطوة مهمة نحتاجها اليوم، بعد أن زاد الخلط «المتعمد» بين المالين العام والشخصي، وبعد أن استحل الكثيرون ما لا يستحقون، وبعد أن «تكسّب» البعض من مناصبهم بشكل ملحوظ، وبما أننا في مرحلة زمنية حرجة بفعل الأزمة المالية العالمية، فالحفاظ على مكتسبات الدولة يكاد يكون واحداً من أهم أولويات المرحلتين الحالية والمستقبلية، ولا شك أن إيضاح الخيطين الأبيض والأسود والفصل بينهما في هذا الشأن، هو أهم خطوة للحفاظ على مكتسبات الحكومة وأموالها.