من المجالس
كان اليابانيون، قبل الأزمة المالية العالمية، أكثر شعوب العالم إنفاقاً على رفاهيتهم، هم الأكثر سفراً، والأكثر شراء. وكانت اليابان أكثر بلاد العالم نصيباً من السيولة المالية، إلى درجة اعتبار المحللين الاقتصاديين تراكم هذه السيولة عاملاً سلبياً، قد يؤدي تكدسها إلى حدوث مشكلة، مثل ما يكون نقصها مشكلة. وبناء عليه كانت اليابان أقل دول العالم في نسبة الفائدة المصرفية، وذلك بتشجيع البنوك على الإقراض، وتشجيع الناس على الإنفاق، ونقل الكثير من هذه الأموال للاستثمار في الخارج في عملية تدوير تمنع التكدس إلى درجة الانسداد. وقد كانت نسبة الفائدة 0.1٪ وهي تعتبر نسبة صفرية، ومع ذلك كانت السيولة تجري في الاقتصاد الياباني كالنهر الجارف.
الآن، وبعد وصول «تسونامي» الأزمة المالية إلى ثاني اقتصاد في العالم انقلبت الصورة، وصار الكلام عن شح في السيولة يهدد بركود، ربما يستمر ثلاث سنوات مقبلة. هذه المستجدات دفعت الحكومة اليابانية إلى الاتجاه لجعل الفائدة 0٪، أي بلا فوائد بنكية، لتشجيع الناس على الاستهلاك وتشجيع البنوك على الإقراض، ومع ذلك يشتكي الاقتصاديون اليابانيون من عزوف الناس عن العودة للإنفاق بشكل يضخ السيولة في الأسواق، ويساعد الدورة الاقتصادية في البلاد.
فاليابانيون، كعادتهم، استوعبوا الدرس وغلّبوا الحاجة على العادة، وآثروا إمساك ما بأيديهم من سيولة استعداداً لليوم الأسود. فالشعوب القارئة والمتابعة والعاملة قادرة على أن تقرأ المستقبل، بعيداً عن المثل العربي «اصرف ما في الجيب يأتك ما في الغيب». فالغيب في علم الله، ولكن ما في الجيب والحساب البنكي هو ما تقربه الأرقام وتؤكده الحقائق. وبناء عليه يتم توجيه السلوك بقدرة متميزة على شد المكابح أو إرخائها، وفقاً لمعطيات الواقع وقراءة المستقبل.
نحن في غنى، ولله الحمد، عن ذلك الركود الذي يهدد اليابان وغيرها من أركان النظام الرأسمالي العالمي، ولكننا في حاجة ماسة إلى تعلم قراءة الواقع، والتدرب على ترويض النفوس تحت عنوان «وكلوا واشربوا ولا تسرفوا».