الرحبانية كما عرفناها
من آثار محرقة غزة الجانبية، أن رحيل واحد مثل هنتنغتون صاحب نظرية (صراع الحضارات)، ورحيل الفنان الكبير منصور الرحباني، مرّا من دون التوقف عندهما كما يجب.
فواحد مثل هنتنغتون شغل الدنيا بنظريته التي كُتبت حولها وضدها العديد من المؤلفات الكونية، وكانت هي ذاتها محركاً لسياسات المحافظين الجدد في أميركا طوال ثماني سنوات، ولكننا سنترك هنتنغتون إلى قراءة لاحقة، بالنظر إلى ما يعنيه لنا واحد مثل منصور الرحباني، والظاهرة الرحبانية عموماً.
أما منصور الرحباني، شقيق عاصي وتوأمه الفني، فقد كان ولايزال، يستوجب منا توقفا مطولاً يتناول ظاهرة الرحابنة مع فيروز، والبحث في مصير الأغنية العربية، والمسرحية الاستعراضية الفنية التي اختفت من على خشبات المسرح العربي. لم يكن منصور الرحباني مجرد ثاني اثنين كتبا وألّفا ولحّنا مسرحيات فيروز العظيمة، ولم يكن مجرد فنان تمكن من حفر اسمه في ذاكرة الفن البشرية. بل يمكن القول: إنه كان يشكل مع عاصي رؤية فنية وثقافية مغايرة عما كان سائدا، وعما تلا في ما بعد، وهو ما يعني أن هذه الرؤية ربما أصبحت منذ رحيل عاصي المبكر قبل منصور، مهددة بالعقم، على عكس الظواهر التاريخية كلها، فنية كانت أم سياسية أم اجتماعية، فالظاهرة لا تموت كما يعلمنا التاريخ، ربما تكمن في مرحلة ما، لكنها تعاود التبرعم ثانية في الوقت الملائم، ولكن الملاحظ مسيرة الفن العربي منذ توقف هذه الظاهرة، على الرغم من محاولات زياد الرحباني الجادة والحثيثة، يلحظ هذا السباق المحموم نحو مزيد من الانحطاط في الأغنية العربية، الأمر الذي يرتب مسؤوليات كبيرة على ذوي الاختصاص والمثقفين عموما.
ولكن أهم ما ميز مسيرة الرحابنة، ومنصور واحد من أعلامها، هو تلك المسرحيات الاستعراضية الثرية، وقد تميزت تلك الأعمال بالمزج بين الغناء والدراما في أسلوب يصعب معه الفصل بينهما، بحيث يبدو الحدث الدرامي قويا متصاعدا، في الوقت الذي تؤدي فيه الأغنية دورا أساسيا في هذا التنامي الدرامي المتواصل حتى النهاية.
كما أن هذه الأعمال تميزت أيضا بتلمسها قضايا الناس الكبرى وهمومها اليومية، فأعلت من القيم الإنسانية الأساسية كالعدل والحق والحرية والجمال، وصوبت سهام نقدها الحادة إلى صميم البنية العربية، الذي يختزن خللا عظيما يؤدي دائما إلى إخفاق المحاولات الإصلاحية الخارجية.
ولكن الأهم في مسيرة منصور الرحباني وعاصي، وربما فيروز أيضا، هو أن هذا الإرث الرحباني العظيم، ما كان له أن يراكم هذه الجمالية، وأن يرينا الحياة من زاوية جديدة، لو لم يكن ثمرة جهد جماعي مشترك، فلا يمكن الحديث عن منصور من دون استحضار عاصي، ولا يمكن الحديث عنهما معا من دون استحضار فيروز.
رحل منصور أثناء العدوان الصهيوني على غزة، وهو يذكرنا برحيله هذا بالشاعر اللبناني خليل حاوي، الذي رحل أيضا أثناء العدوان الصهيوني على لبنان، وحصار بيروت ،1982 وكأن كل منهما يسجل احتجاجا قويا على ما يحدث.
رحل منصور بعد عاصي، ولكن لدينا إرث فني لا يرحل أبدا، حتى لو اقترف العدو الصهيوني عشرات المجازر الأخرى، ذلك لأننا نحب الحياة على طريقة الرحابنة.