الفيلم التسجيلي.. رؤية جديدة
بدأ الفيلم التسجيلي يهجر صالات السينما إلى التلفزيون، ليصبح حدثاً عائلياً في صالونات البيوت وأسيراً للشاشات الصغيرة، ثم يتحول بعدئذ إلى الأماكن العامة ليصبح حدثاً عاماً، بصحبة الشاشات الكبيرة.
في الدراسات الحديثة حول نظرية الفيلم التسجيلي نكتشف أهمية المتغيرات الجوهرية التي طرأت على عملية إنتاجه وعرضه واستقبال أنواعه الفنية المختلفة، فبعد تطور تقنيات الديجيتال الرقمية وتأثير النظريات البنيوية، دخل الفيلم اللاخيالي- الواقع المصوّر حقيقي وغير خيالي- في أزمة جنسه وأنواعه، وأصبحت تقاليده الرئيسة غريبة عن طرق إنتاجه وعرضه، خصوصاً أن أصوله الفيلمية التقليدية وتقنياتها ونظرياته المبدئية الصارمة وضعت أمامه صعوبة بالغة في تصوير الحياة الواقعية في تفاصيلها اليومية وفي أوجه مظاهرها الفيزيائية. بينما وضعت تقنياته الإلكترونية الجديدة أمام السينمائيين سهولة في إنتاجه، لكن من دون أن تتاح لهم معرفة الكيفية التي تجعل من عملية إنتاجه وعرضه، تتناسب وزيادة تأثيره في المجتمع، بشكل يرضي حاجات الناس الجمالية ويضع حقائق الحياة المعاصرة، السياسية والاقتصادية، أمام وعيهم الاجتماعي.
عموماً مازال الفيلم التسجيلي يرتكن في طبيعته على«نظريات» وفهم مجموعة من رواده الكلاسيكيين، كفيرتوف وغريرسون وروثا وكافالكانتي، الذين حاول كل منهم أن يجد لممارسته الخاصة شرعية نظرية، لم ترتق، في مجموعها، لتصبح نظرية جمالية عامة، على العكس مما حصل في نظرية الفيلم الروائي. على هذا لم يعد وما وصل إلينا من آراء نظرية في لغات عديدة يكفي لتبيان طبيعته الفيلم التسجيلي، كوسيط، لا من الناحية الجمالية ولا من الناحية الإنتاجية.
لم يحظ التسجيلي في تاريخه على فرص عرض توازي أهميته، إلا أنه يجد، الآن، فضائيات عديدة تحتضنه وتنتجه وتحصر عرضه على أقمارها الصناعية وتجعل مشاهديه يحاكمون ما هو واقعي بطريقة تختلف عن محاكمتهم لما هو خيالي. سؤال إشكالي: كيف استطاعت الفضائيات العربية، الجزيرة الوثائقية بشكل خاص، وتستطيع أن تضع خطة استراتيجية، تحقق عملية بثه وإنتاجه؟. وكيف تعاملت وتتعامل مع مادته الهائلة المخصصة للبث المستمر وكيف تستورد نماذجه المناسبة وكيف تسعى لإنتاجه في المحيط العربي؟.
عندنا يبدو الأمر في غاية الصعوبة، لأن مفهومنا التقليدي عن التسجيلي لايزال مفهوماً قاصراً، فنحن لم نعترف بتاريخه، لا بولادته ولا بصباه، ولم نلم بفتوته ولم نتوقف عند كهولته، ولم نر قوة أحفاده الذين لا يجدون أمامهم وصية قانونية شرعية ليرثوا كنوزه!
إشكالية جديدة تواجهنا، لا يمكن تجاوزها إلا عبر عملية مساهمتنا النظرية في البحث الجاد، مساهمة تكشف لنا طبيعة الفيلم التسجيلي في عصر الإلكترونيات. وأول خطوة حكيمة هي إيجاد مختبر نظري ينصرف للبحث والدراسة في طبيعة هذا الوسيط الراهنة، مختبر يلتفت إلى المتغيرات الجديدة التي طرأت على عملية إنتاجه وبثه.
لأول مرة في تاريخنا المعاصر تقوم فضائية عربية في بث «الفيلم المهزوم»، ولأول مرة تسهم في إطلاق مجلة إلكترونية (مجلة- الجزيرة الوثائقية) هدفها المساهمة في استنباط نظرية معاصرة للفيلم التسجيلي، تضعها تحت تصرف جيل جديد من السينمائيين ليتعرفوا على خصوصيته، كوسيط، قبل التورط في إنتاجه.