الكتابة والأثر
كشفت دراسة حديثة، أن معدل قراءة المواطن العربي يبلغ ربع صفحة في اليوم! أي أننا أمة لا تقرأ، فهل هذا يعني أن علينا أن نتوقف عن الكتابة؟ وهل يعني أن كل ما نكتبه هو قبض الريح؟
في مواجهة أسئلة كهذه، علينا أن نتعرف إلى معنى الكتابة، إلى آليات فعلها وأثرها في التحولات الثقافية والاجتماعية والسياسية، وإلى قدرتها على تلمس كل ما هو جوهري في الحياة، سوف نواصل الكتابة، لأن الكتابة فعل ثقافي حي لا يموت ولا يتوقف، وهو من سمات الشعوب الأكثر تطلعاً للحرية والتغيير، فحين كانت القصيدة العربية حبيسة القواعد الاجتماعية القبلية، ورهينة الأسياد والمحافظين، كان ثمة من تجرّأ على تلك القوالب والمعايير، التي لا تتوقف عند الحدود الفنية، بل هي تعبير عن تراتبية اجتماعية وسياسية.
فما كان ممكناً وصف قصائد الصعاليك بالثورية، إلا لأن هنالك قواعد صارمة للقصيدة العربية خرجت عليها قصائد الصعاليك، وبمعنى آخر، فإن الكتابة ترتبط مباشرة بالتحولات الاجتماعية والثقافية والسياسية في المجتمع. وهذا الارتباط ليس نتيجة بمقدار ما هو آلية فعل الكتابة نفسها، والكاتب الحقيقي والأصيل، هو الذي يلتقط دبيب التحولات قبل انكشافها وظهورها المعلن والحي، ويقوم بتسويق هذه التحولات والتمهيد لها بوصفها ضرورة اجتماعية قبل أن تكون فنية، ومن هنا تنبع أهمية الكتابة، ولكن علينا ألا ننسى أن التحولات الاجتماعية المحمولة في الكتابة، تتطلب بالضرورة تحولات فنية أيضاً، ومن هنا قام الشعراء الصعاليك الذين رفضوا الاستسلام لسطوة القبيلة بوصفها قدرا أو مصيرا حتميا، قاموا بتحطيم بنية القصيدة التقليدية التي لطالما عبرت عن مدى تلك السطوة القبلية، فلم يعد ثمة بكاء على الأطلال، لأن المكان لم يعد هو المكان الضيق الذي تقترحه القبيلة، بل توسع ليشمل الأرض كلها، بصفتها فضاء حرا للإنسان الحر.
فليس مهما على الإطلاق مثلا، أن ندوّن ما ارتكبه العدو الصهيوني في غزة، سواء كما حدث تماما، أم في صور أدبية وبلاغية مؤثرة، ولكن المهم، هو أن نتلمس نبض الشارع الفلسطيني الخفي، تأملات الناس وأحلامهم وهواجسهم، أفكارهم وهمومهم ومشروعاتهم المستقبلية، ومدى إمكانية تحققها من عدمه. ولا يصح ذلك كفعل تجسسي أو فعل رغائبي، ولكنه يصح من خلال معرفة الناس والانخراط في صفوفهم، بصرف النظر عن نظرتهم إلى الأدب والكتابة، وبصرف النظر عن إيمانهم بجدواها أو قيمتها.
لا ينبغي للكتابة أن تدّعي أنها ستغير العالم، ولكن، في الوقت ذاته، لا ينبغي لها الاستهتار بذاتها وبما تحمل من قيمة معرفية، ولا ينبغي لها أن تصاب بالإحباط من معدلات القراءة المتدنية، فليست الشعوب الأخرى مغرمة بالكتابة الأدبية كما قد نظن، فلا يوجد شاعر فرنسي يطبع من ديوانه أكثر من1000 نسخة، طالما لم يكن نجما مثل مالارميه وبودلير ورامبـو وفرلين، بل إن هنالك كتابا في الغرب لا يطبعون سوى مئات من النسخ، لكنهم يعرفون جيدا أن القارئ الغربي ليس قارئا مجازفا أو مغامرا، وهو قارئ يعتمد كثيرا على ما يسوقه له الإعلام من كتابات، بصرف النظر عن قيمتها أو أهميتها.