«عزازيل» يوسف زيدان

خليل قنديل

تحتكم الرواية الحاذقة والقادرة على استدرج القراء إلى مناخاتها، والقادرة على الانتشار السريع في طبعات متلاحقة؛ إلى قدرة الراوي على الذهاب إلى مناطق بكر لم يطأها الحبر بعد، ولم تدخل في صهريج القولبة اللغوية، وانتقاء الجمل ومنح الحالات تسميات جديدة قادرة على تجميل اللغة ومنح دهشتها للقارئ، الذي ما أن يدخل في هذا المناخ الخصب للقراءة حتى يبدأ بقطف دهشة المؤلف ذاته مناصفة، وربما إذا أضفنا قدرة القارئ على تخصيب التأويل يكون قطافه اكبر من قطاف المؤلف. والروائي المصري يوسف زيدان في روايته «عزازيل» التي تنافس على جائزة البوكر العربية، واحتلت مكانها في قائمة أعمال المرشحة للجائزة هذا العام، استطاع بحكم تجربته المهنية وتخصصه في التوثيق وتحقيق الكتب التراثية العربية، أن يقود القارئ إلى منطقة نائية في التاريخ الكتابي العربي وخصوصاً في المجال الروائي، وأن يدخل هذه المنطقة ويؤثثها حبرياً بما يليق بدهشة الكشف، وذلك ضمن تقنية روائية يتداخل فيها التوثيق التاريخي مع الابداع الآني واسقاطاته.

والمغامرة الروائية الجريئة للروائي المصري يوسف زيدان تكمن في قدرته على تقمص المناخات المذهبية وافتراقات الكنيسة التنظيرية في القرن الخامس الميلادي من خلال راهب مصري يدعى «هيبا»، وتجميد الراهب «نسطور» كنسياً الذي كان يؤسس لاختلافات كنسية جذرية كانت شائعة آنذاك. وتتبدى البراعة الكتابية عند يوسف زيدان في قدرته على منح الماء الحي للجفاف التوثيقي الذي كان من الممكن أن يفقد القراءة للرواية لذتها. لهذا، نراه يختبئ سردياً مانحاً نفسه صفة مترجم الرواية وليس صانعها. وهو يغوي القارئ بمقدمته التي يقول فيها «يضم هذا الكتاب الذي أوصيت أن ينشر بعد وفاتي، ترجمة قدر المستطاع لمجموعة من اللفائف التي اكتشفت قبل عشر سنوات في الخرائب الأثرية الواقعة الى جهة الشمال الغربي من مدينة حلب السورية، وقد وصلتنا بما عليها من كتابات سريانية قديمة في حالية جيدة، نادراً ما نجد مثيلاً لها، مع انها كتبت في النصف الأول من القرن الخامس الميلادي، محفوظة في صندوق خشبي، محكم الإغلاق، أودع فيه الراهب «هيبا» ما دوّنه من سيرة عجيبة وتاريخ غير مقصود لوقائع حياته القلقة، وتقلبات زمانه المضطرب».

هذا هو الطُعم الذي يصطاد من خلاله يوسف زيدان القارئ الذي يظل يبحث عن المكنون والمسكوت عنه في لفائف التاريخ الأثرية. ومن هذا المبرر التوثيقي البسيط، ينطلق يوسف زيدان في جغرافيا مسيحية كانت تسيطر على العالم آنذاك، ويشتبك في جوانية انسانبة معقدة حول العلاقة الشقية والابدية المتعبة بين الانسان والشيطان الذي اسمه «عزازيل»، وكيف يهرب هذا الراهب بعذريته وتبتله من قريته المصرية الى الاسكندرية ومن ثم الى القدس وبعدها إلى انطاكية محتمياً برغبته في تحصيل المعرفة عن الموروثات المعرفية الوثنية وطريقة حرقها وقتل أصحابها، ومعرفته بالطب وبقدرته على كتابة الشعر. وهرباً من شيطانه الذي يوقعه في إثم العلاقة المحرمة مع المرأة في الاسكندرية وانطاكية. إن يوسف زيدان يؤكد لنا من خلال هذه الرواية قدرة الروائي على زلزلة الثابت التاريخي المعرفي وتخصيبه بالمشهدية الانسانية القادرة على أن تحافظ على طازجيتها، على الرغم من مرور القرون المتتالية على مثل هذه الحادثة. إنها براعة الروائي السارد، حينما يصير عمله الروائي بمثابة الفتح الكتابي الجديد.

 

khaleilq@yahoo.com

تويتر