يورو و30 سنتاً

حمدان الشاعر

تناول الإعلام الألماني أخيراً قضية موظفة تم فصلها من وظيفتها محصلةً (كاشير) بسبب ادعاء صاحب العمل بأنها اختلست يورو و30 سنتاً، على الرغم من أن هذا المبلغ يعد زهيداً ولا يعني شيئاً لموظفة أمضت 31 عاماً من عمرها في هذه الوظيفة. هذا التعسف في فصلها أثار موجة احتجاج واستياء لملايين الألمان الذين أثار غضبهم نجاة رؤوس كبيرة من اختلاسات وفضائح فساد بالملايين في مقابل فصل ربة أسرة لمجرد يورو و30 سنتاً.

هذا بالضبط ما يدعى بالنفاق القيمي، فمحاربة الفساد هنا كلمة حق يراد بها باطل، فإذا سرق الصغير عوقب وشُهّر به، ويترك الكبير ليلهو كيفما شاء، لأن له غطاء يُحصّنه من المساءلة والمحاسبة. فاليوم تتناقل وكالات الأنباء أخباراً عن تداعيات الأزمة العالمية وفساد رؤساء بنوك وشركات في أنحاء متفرقة من العالم، والجميع في منجاة من المحاسبة، على الرغم من ثرائهم البيّن وغير المبرر، في الوقت الذي نرى فيه كثيرين ضحايا لجرائم الكبار من زج في السجون، وتسريح من الوظائف، وضياع للبيوت وتبخر للمدخرات. فالنجاة هنا مؤكدة لمديرين كبار، والهلكة مؤكدة لموظفة سرقت يورو و30 سنتاً.

النفاق القيمي يتضح حين تكون هناك معايير مزدوجة، فالمتاجرة بشعارات مكافحة الفساد على الأبرياء قد تنجح في التغرير بمجموعة من الناس، لكنها لا تنطلي على الغالب الأشمل من البشر الذين بمقدورهم التمييز بين الحقيقة والظلال، وبين من يتحجج بالرغبة في استئصال جذور الفساد وإشهار سيف الفضيلة على الفاسدين، في حين أن كثيراً من هؤلاء ليسوا سوى كباش فداء وضحايا لآخرين فسدت ذممهم فاستغلوا مناصبهم فتراكمت أرصدتهم ثم نجوا من فعلتهم.

ما شعور هذه السيدة البسيطة التي عملت لمدة 31 عاماً في مهنة كل ما تتطلبه هو التعامل مع نقود صماء تذهب وتجيء، فبعد أن تفقد وظيفتها وفرصة حياتها فإلى أين تُيمم وجهها! ولكن البقاء ليس دائماً للأقوى، فعاقبة الظلم ستحيق بالظالم لا محالة، طال الأمد أم قصر، ومثلها كثيرون ممّن ينتظرون عدالة السماء لتقول كلمتها الأخيرة في حالة إنسانية، جُلّ خطئها أنها لم تكن من ضمن جوقة الكبار النائمين على جرار الذهب والفضة.

إذا كانت ألمانيا دولة القانون اعتبرت هذه السيدة غير أمينة، فماذا عنا نحن في دول مازالت تعشعش فيها الأكاذيب وتنطلي فيها الخرافات بأن الفساد قد تم اجتثاثه، في حين أنه اجتث من أرض الفقراء كي يترعرع ويورق في أرض معدومي الذمة والضمير.

hkshaer@dm.gov.ae

تويتر