من محطة إلى مدينة

يوسف ضمرة

قبل عقود قليلة، ومع بداية انطلاق الرواية الأردنية، كان المنفى يشكل (التيمة) الأساسية في الكتابات الروائية، بدءاً من تيسير سبول في روايته (أنت منذ اليوم) ومروراً بروايات غالب هلسا وبعض روايات مؤنس الرزاز وجمال ناجي وإبراهيم نصر الله وإلياس فركوح ومحمد عيد وغيرهم.

لم تكن عمّان هي المشكلة أو السبب، ولكن تجارب الروائيين الموضوعية هي التي قادت الرواية آنذاك إلى المنفى. فغالبية هؤلاء كتبوا من وحي تجاربهم الذاتية، التي ولدت في المنفى، حيث لم يصبح الكثير منهم روائياً إلا منفياً.

وحين نقول المنفى، فإننا لا نفرق هنا بين المنفى الاختياري والمنفى القسري، فكلاهما ينطوي على ضرورة أو اضطرار ما، حيث لا فرق بين أن تغادر الوطن مطروداً سياسياً، وأن تغادره مضطراً للبحث عن لقمة العيش أو دفقة حرية تفتقدها في الوطن، وتجد شيئاً منها في الانخراط في بعض حركات التحرر الوطني، كالمقاومة الفلسطينية مثلاً. بل يمكن القول إن المقاومة الفلسطينية شكلت عامل جذب للكتاب والمثقفين، بصفة أغلبيتهم آنذاك مهاجرين فلسطينيين إلى الأردن عامي 1948 و،1967 من دون أن ننسى تأثير المقاومة كحركة تحرر عربية في جذب عدد من المثقفين الأردنيين التواقين إلى الحرية.

في ظل هذه التجربة كان المنفى سيد الرواية الأردنية، وظل كذلك حتى وقت قريب، إلى أن بزغ جيل جديد من الروائيين الشباب الذين لم يغتربوا ولم يجربوا المنفى في أي شكل من أشكاله، إضافة إلى أن المنفى بدا كتجربة عابرة في العديد من الروايات الأولى، التي شكلت ما يمكن تسميته بالرواية السير/ذاتية، إلى الحد الذي دفع الروائية سميحة خريس إلى تسمية روايتها الأولى (رحلتي)! ودفع جمال ناجي إلى تسمية روايته الأولى (الطريق إلى بلحارث)، وهي كما تبدو مكان ليس أردنياً، وهو ما حدث مع قاسم توفيق أيضاً في روايته (الشندغة). وهنالك روايات أخرى كالرحيل وليلة في القطار وبدوي في أوروبا وغير ذلك.

ولكن العقدين الأخيرين حملا إلينا مكاناً جديداً في الرواية الأردنية، وهو مدينة عمّان. وربما كان مؤنس الرزاز واحداً ممن قادوا هذا التوجه الجديد، وربما أهلته تجربته الاجتماعية إلى لعب هذا الدور. فهو ابن عمان مولداً ونشأة، وإن اغترب عنها لأسباب سياسية، سجلها في غير رواية. لكنه حين استقر في عمان، وجد أنها هي المكان الغائب عن كتاباته وكتابات الآخرين، فاقتحمها.

وفي السنوات الأخيرة، بدأت عمان تمنح الروائيين سمات جديدة لم تكن موجودة من قبل. فقد شكلت التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في العقدين الأخيرين، منعطفاً وسم المكان (عمّان) في العمق. ولعل هذه التحولات جعلت من عمان محور حركة دائماً ومتغيراً، سرعان ما التقطه الروائيون، وبدأوا يتلمسون آثار هذه التحولات على الحاضر والمستقبل، من خلال مدينة تعيش على أهبة التحولات السريعة، بفعل تأثرها بالمحيطين العربي والإقليمي.

ولكي تكتمل الصورة كان لابد من العودة إلى عمان البدايات والتشكل، لكي يتمكن القارئ من التفاعل مع مدينة حية تنمو وتتغير وتتحول مثل المدن الأخرى، بعد أن ظلت وقتاً طويلاً مجرد محطة في كثير من الهجرات الداخلية والخارجية القريبة والبعيدة.

damra1953@yahoo.com

 

تويتر