كاتب الصمت
في حوار أجراه الكاتب لويس ايزين مع حائز جائزة نوبل للآداب الروائي جان - ماري لوكليزيو، باعتباره كاتباً مجدداً كتب المغامرة بقلم شاعري، وروائياً مكتشفاً للإنسانية، بعيداً عن الحضارة المهيمنة، يصر على أنه رجل يجب المقاهي ويقول أنه يجد متعة في أن يلتقي بالناس ويتحدث معهم حول أشياء رائعة، مؤكداً أنه يكتب أيضاً وهو ينظر إلى الآخرين، ويستمتع بقوة الأشياء التي تحدث معهم أو بينه وبينهم.
اتخيل الآن مقهى لوكليزيو المفضل لديه، وأتخيله وهو يقول: عندما أكتب لا أسمع الضجيج، وأقول بكل وثوقية إن معظم الكتاب العرب كتبوا رواياتهم في غرف مغلقة ومعذبة بالغبار.
لوكليزيو الذي أتلف ضوء عينيه في القراءة يكشف أيضاً عن مبالغته في السفر إلى البلدان الحارة، ويرى أنه يكتب خلال الرحلات، كما يكتب وهو في الأمكنة التي تتحرك، كالطائرات والقطارات مهما كانت سرعتها، والطريف أنه يحب المقصورة المخصصة للبضائع في مؤخرة القطار، حيث يمكنه أن يتكئ على المتراس، ليرى المناظر التي تمر، بجمالها وقبحها.
ومن خلال سياق الحديث، يكتشف المرء بساطة لوكليزيو الذي تحول إلى كاتب صمت من خلال هروبه من كاتب المدينة أو الكاتب العصري الذي يمقت أن يكونه لكي لا يقترف التضحية بشفافية الصحراء، خصوصاً أنه يبحث عن العمق، ويقول إنه وفي مرات عديدة نجح في العثور عليه.
وهنا لابد من التساؤل عن قيمة الصحراء المهملة لدينا! ولماذا يهرب المبدعون العرب باتجاه المدينة ومعانقة العالم من خلالها فقط؟
ثمة كتاب عرب ينسون تماماً نشاطهم الطبيعي الذي يحبه لوكليزيو الذي لم يغفل حتى البعد الرياضي في كتابته، وكذلك البيئة التي أحبها إلى الحد الذي كتب فيه حكاية تدور أحداثها بين النوارس، حيث لا وجود لإنسان.. بمعنى أن الكتاب كله كان بيئياً. كم رواية عربية صدرت وهي تتضمن مثل هذه العوالم التي يغفلها التفكير بالشهرة. فالشهرة عند لوكليزيو لا تتعلق بالكتابة لانه وببساطة تامة لا يتخيل قارئاً مختلفاً عنه.
وعلى الرغم من محبة لوكليزيو لكتابة كل ما يعيشه، إلا أنه يرى أن الخيال جنة الكاتب، مبيناً أنه كتب في رواية «سفر طويل» أن الباخرة التي كان يسافر على متنها لن تصل، لأن حوتاً ضخماً رفعها فتطايرت، وكان بالفعل يعرف أن هذه التجربة لم تحدث معه، لكنه كان يرغب في وقوع شيء من هذا القبيل لكي يعيشه ويشاهده.
ولا ينسى لوكليزيو قوة الذاكرة في فعل الكتابة، حيث يرى أننا عندما نشيخ تنقص حصة الخيال لمصلحة الذاكرة ومخزونها الذي لا يتبدد إلا في رأس الميت. أما الماتع فيكمن في اعتراف هذا الكاتب الكبير بأن حركة الجسد ليست تسلية أو ترفيهية، وإننا نشد إلى الرقص، خصوصاً إذا كنا جالسين، معتبراً أن هناك أشياء تحبك وتحبها، ولا تستطيع التعبير عنها من غير الحركة، وربما تستطيع التعبير من خلال الرقص، أو عندما نصوره، لأن هناك حركات تقوم مقام الكلمات واللغة.