آفة الكذب

الكذب عادة سيئة تنشأ مع نشأة المرء إذا كان قد غذيها قولاً أو تأثراً، فتكبر كلما كبر وتضعف كلما ضعف، ويكون المرء معها مهيناً حقيراً بين إخوانه من أبناء مجتمعه، فإن قال لا يُسمع، وإن شفع لا يُشفّع، وما أوصله إلى هذه المهانة إلاّ هِمّته الدانية عن معالي الأمور، ولذلك قالوا:

لا يكذبُ المرء إلا من مهانته أو عادة السوء أو من قلة الأدبِ.

ولما كان ديننا الإسلامي يقوم على مكارم الأخلاق وجمال الشيم، فقد حارب هذه الآفة بما يجعل الإقدام عليها نوعاً من التهور إلى المصير السيئ، فقد قال الله تعالى: { إِنمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} والمعنى أن الكذب ينافي الإيمان الذي يوصل إلى رضوان الرحمن، فإن الكذب يزاحمه فلا يجامعه، وقد أخرج البيهقي من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يُطبع المؤمن على كل شيء إلا الخيانة والكذب» ذلك لأن هاتين الخصلتين تنافيان التصديق بالله واليوم الآخر، فكانتا من نواقضه، وقد سئل صلى الله عليه وسلم: أيكون المؤمن جباناً؟ فقال: «نعم» ، فقيل له: أيكون المؤمن بخيلاً؟ فقال: «نعم» ، فقيل له: «أيكون المؤمن كذاباً»؟ فقال: «لا» كما أخرجه مالك في الموطأ، لذلك كان على مدعي الإيمان أن يبرهن على صدق إيمانه بملازمة الصدق ومجانبة الكذب، قليله وكثيره، فإنه قد يتدرب بقليل الكذب ليصل إلى كبيره، فيكون في محل مقت الله تعالى وغضبه، فقد أخرج البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكون صديقاً، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً» وهذا حديث عظيم، جمع بين وسيلتي الترغيب والترهيب، وبيان وسيلتي اكتساب الخير والشر، وهو دليل على أن الأخلاق الحسنة أو السيئة قد تكون مكتسبة، وليس بالضرورة أن تكون فطرية، فما دام المرء قادراً على أن يكسب نفسه الخير، فما باله يتقاعس عن حصوله، ويورد نفسه مورد السوء، وهو قادر على نجاتها وإكسابها الخير العظيم؟! أما يسمع المسلم ذلك الطرد من رحمة الله تعالى الذي أنذره الكاذب{لَعْنة اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} فلماذا يتعرض لذلك وهو يعلم ذلك المصير الذي ينتظره، وقد ورد : «إن العبد ليقول الكلمة لا يقولها إلا ليضحك الناس، يهوي بها أبعد ما بين السماء والأرض، وإنه ليزل عن لسانه أشد مما يزل عن قدميه» ناهيك عن وضعه في هذه الحياة فمن ذا الذي يصادقه؟ أم من ذا الذي يعامله؟ أم من ذا الذي يكرمه؟ ألا يتقي المسلم ربه ويحافظ على نفسه ودينه؟ فما الذي يجنيه من ربح إذ هو خسر المكانة الاجتماعية؟، وماذا يجني من لذة وهو يتذوق الهوان؟ ولئن كان الكذب مذموماً في كل حال، ومن كل أحد فإن الكذب الذي يكون من وسائل الإعلام أكبر جرماً؛ لأنه يشيع في الناس فيعم شرره وضرره، وقد ورد في عذاب مثل هذا ما أخرجه أحمد من حديث سمرة «في الرجل الذي يكذب الكذبة فتحمل عنه في الآفاق أنه يعذب بكلوب من حديد، فيدخله في شدقه، فيشقه، حتى يبلغ قفاه، ثم يخرجه فيدخله في شدقه الآخر، ويلتئم هذا الشّدق، فهو يفعل ذلك به» اللهم سلّم سلّم.

كبير مفتين بدائرة الشؤون الإسلامية في دبي

الأكثر مشاركة