تكبير صورة الواقع
ترك أنطونيوني إيطاليا إلى إنجلترا في عام 1966 لتصوير أول فيلم له غير إيطالي، باللغة الإنجليزية Blow Up الذي أنتجته مترو غولدين ماير. وكان حينئذٍ يمر بعد فيلم «الصحراء الحمراء»، بفترة صعب التنبؤ فيها بالمسار الذي سيتبعه في أفلامه المقبلة خصوصاً أن النقاد وجدوا أنه وصل إلى نهاية مسدودة في تنويعاته على موضوع واحد: الشعور بضياع شخصياته في عالمها النفسي. غير أن فيلمه الإنجليزي تكبير الصورة، جاء أشبه بانحراف جذري عن أسلوب كل أفلامه السابقة، أكان على مستوى المعالجة البصرية أو على مستوى نوعية الموضوع. وبعد النجاح الهائل الذي حققه الفيلم ـ حاز السعفة الذهبية في مهرجان كان 1967 ـ حصل أنطونيوني على عقد لإنتاج فيلمه الثاني «نقطة زابريسكي» في أميركا، والذي عالج فيه الحلم الأميركي في عالم الاستهلاك المتوحش.
بطل فيلم «تكبير» مصور فوتوغرافي، يخامره الشك في مضمون صورة، يكتشف وهو يقوم بتكبيرها، أنه كان شاهداً على جريمة قتل لم يرها في الواقع، وحينما يذهب في الليل إلى موقع الجريمة، يرى الجثة، لكنه حينما يذهب مرة ثانية في النهار، يجد أن الجثة اختفت. موضوع القصة، العلاقة بين الاستنساخ والواقع، بين الوهم والحقيقة. وتبدو آلة التصوير، كناقل أمين للحقيقة، مضللة وغير معصومة عن الخطأ. من هنا يحاول أنطونيوني أن يضع عملية إعادة تشكيل الواقع بصورته المجردة، في الفن، أمام التساؤل، فالفيلم يعنى بالبحث عن شيء لا يتم العثور عليه أبداً. وحينما يعتقد المصور أنه تصاهر مع الواقع، بوساطة كاميرته، يكتشف بأن الواقع يخونه، وبأنه لم ير في الواقع سوى ظاهره فقط، ولا يرى فيه سوى عالم من الأشباح. في البداية، يرى بعينيه ما لا يحدث في الواقع، وفي النهاية يسمع بأذنيه ما لا وجود له في الواقع.
إذا ما تذكرنا فيلم هتشكوك «النافذة الخلفية»، الذي هو، أيضاً، أشبه برؤية سينماتوغرافية لرؤية فوتوغرافية، فيمكن أن نجد «تكبير» أشبه بمزيج من سينما هتشكوك وسينما أنطونيوني. غير أن أنطونيوني يذهب أبعد: إنه يبحث في قدرة الصورة على التعبير عن صورة الواقع، ويجد أن الفيلم، كعمل فني، يركز على جزء من صورة الواقع، وحينما يكبر صورته، يبعد أنظارنا عن الواقع الحقيقي، لأن الحقيقة، لا تكمن في الهدف ببساطة، إنما تكمن في الطريقة الحقيقية التي يتبعها المرء للوصول إلى الهدف.
يرى لوتمان أن التحليل السينمائي لصور، التقطت، مصادفةً، تكشف وجود جريمة قتل، لكن حينما يزعزع التحليل السيميائي للعالم الإيمان الأعمى بمصداقية الوقائع، فإنه يفتح الطريق أمام الفنان لبلوغ الحقيقة السينمائية. لقد بدا العالم القائم على الثقة المطلقة بالوقائع التجريبية، يتزعزع تحت تأثير علوم القرن العشرين، ولم يعد يستند على الشعور بالطمأنينة والسعادة الاجتماعية، الذي كان يشكل القاعدة السيكولوجية لعصر الفلسفة الوضعية. على هذا لم تعدّ مهمة المؤرخ وعالم الجريمة تقوم على إعادة تشكيل الواقع استناداً إلى الوثيقة، إنما أصبحت مهمتهما الحقيقية تأويل الواقع، بمساعدة الوثيقة، فليس من الصعب نقل صور الحياة، الصعب هو حل رموز الصور التي تنقل الحياة.