معطف عمره مئتا سنة
طبعا هو معطف غوغول، الذي خرج منه الكتاب الروس على حد تعبير ديستويفسكي. وللمعطف في مسيرة غوغول أهمية خاصة، فهي القصة التي شكلت انعطافة ملحوظة في الكتابة الروسية، وهي القصة التي منحت النقاد والدارسين فرصة اكتشاف التأويل، بوصفها قصةً حمّالة أوجه.
فبينما يقف البعض عند الحدود الخارجية للنص، والتي تصور انسحاق الإنسان أمام عجلة البيروقراطية والاستبداد، فإن ما تحمله القصة من إشارات وعلامات، يمنحنا المقدرة على الذهاب إلى ما هو أبعد، من دون أن نغفل ما هو مباشر في النص.
وإذا كان كثيرون لا يرون في غوغول سوى البعد الساخر، وهو بعد ملموس في«المفتش العام»، و«أمسيات قرب قرية ديكانكا»، فإنهم بذلك يختصرون عالم غوغول ويختزلونه إلى ما هو جزئي أو ربما ثانوي.
فأهم أعمال غوغول «المعطف والأنف والأرواح الميتة ويوميات مجنون»، ليست قائمة على بعد السخرية، مقدار قيامها على أبعاد أخرى، منها ما هو سيكولوجي، ومنها الغرائبي واللامعقول، في مزيج اجتماعي شامل.
ويمكن القول بقليل من الحذر، إن غوغول هو الذي كتب الكلمة الأولى في السرد الغرائبي وأدب اللامعقول، إلى الحد الذي يجعلنا نرى كلا من كافكا وإدغار ألان بو ويوجين أونيسكو، تلاميذ مخلصين وأوفياء لهذا الكاتب الكبير.
فقد استيقظ المقدم(كولياكوف) في قصة الأنف لغوغول ذات صباح، ليكتشف أن أنفه قد انفصل عن وجهه، وأخذ يلاحقه في الشوارع في هيئة غريبة، ليأتي بطل كافكا في المسخ بعد مئة عام، ويستيقظ كي يكتشف أنه تحول إلى دودة لزجة، وهو ما حدث لبطل أونيسكو الذي تحول خرتيتا يركض في الشوارع.
ولا يعنينا كثيرا أن يكون غوغول هو الأول أو الثاني، مقدار عنايتنا بالواقع الموضوعي في عالمه، الذي أنتج هذا الواقع الفني، فهو ذلك الواقع الذي يرسخ ضآلة الإنسان وانسحاقه ومذلته في مواجهة الاستبداد والقهر والظلم. وحين يحتفل العالم هذا العام بالمئوية الثانية لميلاد هذا الكاتب الكبير، فإنه يضع على وجهه قناعا محكما، يخفي به ملامح الاستبداد والقهر والظلم العابرة للقارات.
فلا يعقل أن يحتفل هذا العالم بمعطف السيد أكاكي أكاكيفيتش المنسحق أمام الظلم والقهر، والذي يموت قهرا على معطفه المسروق، حيث يرى اللصوص في نوبة الحمى يكمنون تحت سريره، بينما يغض هذا العالم الطرف عن الجرائم التي يرتكبها اللصوص العابرون للقارات، ضد الفقراء والبسطاء والمعدمين في أرجاء الأرض.
ثمة نفاق كوني لايزال يحاول أن يسوق نفسه تحت شعار التقدم والحرية، بينما الحرية والعدالة غائبتان أو مغيبتان قسرا، كشرط ضروري للمتاجرة بأرواح الناس وأرضهم وثقافاتهم، وهو أمر ليس بعيدا عما كان غوغول يحاول أن يقف ضده في كتاباته.
لم يكن معطف غوغول الجديد، سوى محاولة أخيرة من السيد أكاكي أكاكيفيتش للتراجع عن انسحابه من محيطه العام، ولكن اللصوص يسرقون المعطف، فيكبر إحساس صاحبه بالبرد وبالقهر، ويقرر الانسحاب النهائي بالموت، تماما كما حاول موظف تشيخوف أن يتصرف كإنسان، لكن سلوكه وسلوك رئيسه أشعراه بمزيد من ضآلته فقرر الانسحاب النهائي أيضا ومات.
حبذا لو اقترن هذا الاحتفال الكوني بغوغول، بالتقليل من عدد اللصوص متعددي الجنسيات، لكي نمشي مطمئنين غير خائفين على معاطفنا!
damra1953@yahoo.com