قبلات عربية
آن الأوان ليتوقف العرب عن عادة التقبيل القديمة قدم تاريخهم نفسه، فالأمراض تدهم العالم، و«الأنفاس لم تعد دخوناً ولا عطوراً». وعلى من يريد السلام بالقُبل والأحضان أن يحذر في هذه الأيام من عواقب ذلك، فأنفلونزا الخنازير تنتقل بين البشر عبر الأنفاس التي تغرزها القبلات في الجسد والروح مرضاً يفضي إلى موت شبه محتم، لأننا هنا في مواجهة عدو فيروسي، لم يستطع العلماء دحره بحقنة أو حبة دواء.
أيضاً هناك ترجيحات علمية بأن التهاب الكبد الوبائي والسل ينتقلان عبر الأنفاس القريبة، ونحن أمة لا تجد وسيلة حميمة في السلام بين الذكور رجالاً وأولاداً وأطفالاً سوى التقبيل، في حين أن معظم الأمم تنفر من ذلك، وتشكك في مغزاه أخلاقياً وجسدياً. وهذه قضية شائكة لها علاقة بثقافات وموروثات اجتماعية، لا يكون الحكم عليها إلا بوضعها في سياق تاريخي وحضاري، لا يسعى المقال إلى مناقشته في مناسبة تكاثر الأوبئة والأمراض بين المخلوقات.
أنفلونزا الخنازير وصلت إلى الشرق الأوسط، ولم يعد مكان في العالم كله بمأمن من مخاطرها، والتزام وسائل الوقاية، ورفع مستوى الوعي الصحي ضروريان، ولذلك لم يعد مبرراً لأي عربي أن ينتقد عربياً آخر فيقول إن «سلامه كان بارداً» أو إنه «اكتفى بالمصافحة». بل إن أفضل ما يفعل الرجل لصديق أو قريب أن يلقي عليه التحية، ويختار أكثر كلمات الترحيب والسؤال عن الحال والعيال، ويكررها مراراً، كما يشاء، فذلك على الأقل لا ينقل فيروساً، ولا يشيع الأمراض المهلكة.
لننظر في عالم الذكور إلى تقبيل الوجنتين، وإلى «المخاشمة» هنا في الإمارات والخليج، وإلى الاحتضان الحار في بلاد العرب. ولنقوّم هذا الموروث في تفحّص أسبابه ومناسباته. فنحن نستخدم القبلة في السلام بعد كل غياب، وعند كل بهجة وعزاء، وقبل كل سفر وبعده، وفي الأعياد وأيام الجمعة، ولدينا تقويم للعلاقة بين الناس بناءً على طريقة سلامهم، فإن خلت من التقبيل خلت من الدفء والقرب والحميمية!
وعلى سوء ما ينقل التقبيل من أمراض، ليس آخرها أنفلونزا الخنازير فإنه عادة اجتماعية لا تخضع للمراجعة، ونظرية «لكل مقام مقال» فنحن نقبّل مرضانا من الأقرباء والأصدقاء حين نعودهم في المستشفيات، ونحن نقبّل الأطفال الرضّع على وجوههم، وقريباً من أجهزتهم التنفسية التي تحمل الأكسجين إلى أجساد غضّة، ذات مناعة جسدية قليلة. وكثير منا لا يرى بأساً أن يأخذك بالأحضان وهو مصاب بزكام، ويخبرك بذلك، معتذراً منك أنه لن يدع خدّه يلامس خدّك، حرصاً على صحتك. وفي خضم ذلك كله مواقف لا تخلو من الإحراج والامتعاض عندما يحتضنك مدخّن شره، أو رجل بلّله عرق الصيف، ولكنك مضطر لتحمّل ذلك، لئلا تتعرض لصنوف اللوم والازدراء الاجتماعي!
لا بأس أن نخفف من حرارة مشاعرنا في هذه الأيام، فالأمور أخطر من أن نستهين بنتائجها، والابتسامة والوجه البشوش، ومعهما التلويحة بالأيدي تكفي، ولعلها تكون مناسبة لنراجع كثيراً ممّا تعوّدنا عليه وورثناه بمحاسنه ومساوئه، من دون أن نتبين فيه الضار من النافع!