جياد النار

قيس الزبيدي

عرض فيلم باراجانوف «جياد النار - ظلال الأجداد المنسيين»، في صالة كبيرة في الشانزلزيه عام ،1966 واستمر عرضه لأربعة أشهر، وكان حدثاً سينمائياً مثيراً. وقتها عقبت «الليموند»: «فيلم غير مألوف، لا في تقاليد السينما الروسية ولا في السينما العالمية». وكتبت «النوفيل أبسيرفاتور»: «عليّنا أن نقول، إن ليس هناك فيلماً مثله، يستطيع أن يخاطب مباشرة أحاسيسنا الإنسانية». وكتبت مجلة «سينما»: «مثل نيزك من عالم آخر، يأتينا جياد النار - واحداً من روائع تاريخ السينما».

يستلهم «جياد النار» التقاليد والطقوس والموسيقى الشعبية في مناطق سكان جبال الكربات، فيلم من أروع الأفلام، من دون منازع، يسيطر علينا عبر شجاعته الفنية غير المألوفة، عبر خياله الخلاق المتدفق.

صرح تاركو فسكي ذات مرة: «في النهاية، ستبقى أفلامنا، التي ستعطي الحق لأسلافنا ليحكموا علينا بأنفسهم». بالنسبة لبارجانوف يختلف الأمر، إذ لا يمكن الحكم عليه من أفلامه فقط، فقد كان عبقرياً بأفكاره المتطرفة، وتوغلت عبقريته في حياته، وجعلت منه أسطورة حية من خلال قصصه ورسومه وشعوذته، التي تعرض لها كل من حوله.

في كتاب كاتانيان «ثمن العيد الخالد- ترجمة نضال حسن» نقرأ سيرة حياته الخاصة: مذكرات عن أعماله، أحاديثه ونزواته، غرابة أطواره، إضافة إلى رسائله من السجن.

في الرابعة والستين، سمح له، أول مرة، بالسفر إلى روتردام، كواحد من أفضل عشرين مخرجاً في العالم، للمشاركة في احتفال 1988 «أمل القرن الواحد والعشرين». وبدأ بعدئذٍ ينتقل من بلد إلى آخر، يتلقى الجوائز وتنهال عليه عروض العمل في أوروبا وهوليوود: «إنهم يجعلونني قرداً مروّضاً، لا أحب هذه الفنادق الضخمة ولا أعرف أن أقوم بفتح العدد الذي لا ينتهي من صنابير المياه في الحمامات، ولا أن أنام في أسرّة، تجعلني، أزحف على أربع، لأصل إلى الوسادة.. جذوري ومشاعري وآلامي في بيتي، ولا أريد أن أصور في بلد آخر». قال عنه لوتمان: «فنان عبقري، ما أن تشاهد أفلامه حتى يأسرك حضوره الفني، القوي والفاتن. كأن أحداً يلعب معك كما يلعب البحر الهائج مع سباح، ما إن يجتاز موجة، حتى تأتي أخرى وتغمره. أمر لا يشبه أي شيء على الإطلاق». وكتبت «ليبراسيون»: «المايسترو الوحيد، بعد رحيل بازوليني، الذي يجعلنا نصدق الأساطير. محت السلطة من حياته خمسة عشر عاماً، وحرمته من إنجاز أفلامه، ولا تُوجد عقوبة جنائية، لم تُسجل ضده، ولا توجد خطيئة، لم تُلصق به»

«على المخرجين، يؤكد باراجانوف، أن يبتكروا لغتهم السينمائية، التي بدأت السينما السوفيتية تفتقر إليها، رغم قوة ماضيها في الإبداع والابتكار». أكان باراجانوف معارضاً للنظام الاشتراكي؟ أجاب: «بالتأكيد لكن ليس في السياسة إنما في الفن»!

حينما توفي باراجانوف، أرسل مورافيا وفلليني وغويرا وأنطونيوني وبيرتولتشي وبيلوكيو وروزي برقية: «برحيل باراجانوف فقد عالم السينما أحد سحرته العظماء، أحد عباقرة السينما، لكن فانتازياه ستبقى تُسعد الناس زمناً طويلاً». انتهت حياة سيرغي على الأرض، وبدأت عظمته تظهر أكثر، وأصبح تكريم فنه يحصل، لكن من دونه.

في افتتاح أول معرض له كتب: «في شبابي، وأنا أفكر كيف أعيل حياتي، انتسبت إلى جامعة السينما، ومنذ ذلك الوقت وأنا جائع»!

 

alzubaidi0@gmail.com  

تويتر