تبادل مواقع
تعيش الثقافة في كل المجتمعات والأزمنة، حالاً من الصراعات المعلنة والمضمرة. وهي صراعات قائمة على ما هو أعمق وأبعد من البعد الثقافي، كالصراعات الطبقية، والعرقية، والإثنية، والطائفية. إضافة إلى صراع الثقافة الواحدة بأذرعها المتنوعة، مع الثقافات الأجنبية الأخرى، خصوصاً تلك التي تحمل في أعمقها مشروعات الإقصاء والتذويب.. أي الثقافات المركزية التي ترى الثقافات الأخرى هامشية وثانوية. ويمكن اعتبار ماكس ويبر عالم الاجتماع الشهير، أحد رموز تلك الثقافات المركزية، بما تحمله قراءاته وتحليلاته ومفاهيمه من تجسيد لهذه الفكرة.
وما نشهده من تقلبات في المواقع على الساحة الثقافية العربية، هو نتيجة هذه الصراعات، وليس مجرد طفرات عابرة، فإذا كان الشعر ذات يوم ديوان العرب، والرواية ديوانهم اليوم كما يقال، فإن هذا الصعود الملحوظ للرواية العربية، وانكفاء الشعر العربي، أتيا بعد صراع طويل في الثقافة العربية من جهة، وبين الثقافة العربية والثقافات الأخرى من جهة ثانية. فلم يعرف العرب موضوعياً جنسا أدبيا من قبل كما عرفوا الشعر، إلى الحد الذي جعلهم لا يجدون سواه مثالا للبلاغة كي يصفوا القرآن الكريم. فاتهم النبي بأنه شاعر، وبأن القرآن شعر، على الرغم من أن القرآن الكريم ينطوي على أجمل القصص.
إن التراتبية الثقافية في أي مجتمع، مرتبطة بقوة بهذه الصراعات، بحيث يبدو جوهر الحركة الثقافية في حراك دائم، فيما لو أمعنا النظر قليلا. ولا تتم هذه التغييرات صدفة أو تحقيقا لرغبة أحد. فاستبدال الموضوعات في الأعمال الإبداعية العربية، لم يكن ليحدث لولا كثير من التحولات الثقافية والاجتماعية والسياسية التي أصابت المجتمعات العربية. وعليه لم تصبح الذات موضوعا حقيقيا للكتابة إلا بعد انهيار الكثير من الأحلام والآمال الجمعية العربية، التي سادت لأكثر من ثلاثة عقود في القرن المنصرم. ووصول المرأة العربية إلى هذا المقدار من الجرأة في التعبير والبوح، ليس إلا نتيجة الصراع الدائر منذ قرون حول المرأة. وهو الصراع الذي قاد المرأة في نهاية الأمر إلى انتزاع مقدار ما من حريتها العامة، التي انعكست على حريتها في الكتابة والتعبير والبوح، وتراجع القصة القصيرة هو نتيجة تأثر الثقافة العربية بالثقافة الغربية، والثقافة الغربية التي نامت على حرير القصة القصيرة زمنا طويلا، تأثرت بالثقافات الأخرى كالأميركية اللاتينية واليابانية.
فبينما كانت الرواية الغربية منذ ما قبل منتصف القرن الماضي في سبات شتوي طويل، كانت الرواية في أميركا اللاتينية واليابان تعيش ألقا متزايدا، إلى الحد الذي أثر في المشهد الإبداعي الغربي فانطلق مجددا إلى الرواية، محاولا استعادة أمجاد الماضي الروائي الغربي.
وكلنا يذكر كيف تبدلت مواقع الفنون والآداب في الغرب بين الموسيقى الكلاسيكية والمسرح والأوبرا والشعر والرواية والقصة، وهو ما يحدث اليوم في المجتمعات العربية، ولكي نفهم هذا التبدل في مواقع الفنون والآداب، علينا بالضرورة أن نربط بين الثقافة كمفهوم أنثروبولوجي شامل، وبين الوقائع والتحولات الموضوعية في مناحي الحياة، وهو ما سوف يقودنا إلى عدم المغالاة في الانحياز إلى جنس أدبي دون آخر، كما أنه يقودنا أيضا إلى فهم آلية تأثير الفنون والآداب في التحولات الموضوعية التي تصيب المجتمعات العربية، كأي مجتمعات أخرى.