طفولة
يبدو أن طفولة المبدعين تمثل منبعاً سحرياً لهم، وهو لا ينضب، حتى لو بلغ المبدع عتبة الشيخوخة. وأعتقد أن الإنسان، عموماً، لا ينقطع حبله السري مع طفولته، مهما تجاوز من مراحل عمرية، إلى أن يبلغ التراب في حفرة القبر. وإذا كانت تسمية الحبل السري تعني الرابط بين الجنين وأمه، والذي مع الولادة يتم قطعه، إلا أن ذلك الحبل السري يظل موجوداً عاطفياً، فعلاقة الابن بأمه تلامس المقدس، ولاتزال «الجنة تحت أقدام الأمهات».
ويبدو لي أن طفولة المبدع هي فردوسه الرمزي، والتي لا تتوقف أجراسها الصغيرة عن الرنين في كل مراحل حياة المبدع، إن كان شاعراً أو رساماً أو روائياً أو موسيقياً أو قاصاً. تلك الأجراس اللطيفة ترن، لكن أحياناً ونتيجة دوران الحياة اليومية الصاخب، قد لا نسمع ذلك الرنين السحري، وقد نتناساه أحياناً، تحت وطأة أعباء الحياة وتفاصيلها الجديدة، التي أصبحت تجتاح أي لحظة هدوء مثل جرافة لا تتوقف عن الهدم وزلزلة اللحظة التأملية.
الطفولة نبع لا يتوقف عن الجريان، ماء صافٍ مثل عين الديك في صباح مشرق. نبع نتمرأى في مراياه، ونقرأ تفاصيل من ذلك الزمن، بلغة جديدة، ونقارن تلقائياً بين تلك الطفولة وطفولة الزمن الحالي. دائماً ثمة طفولتان تتجاوران مكانياً، لكنهما تبتعدان زمانياً. وما من أديب أو فنان لم يغرف من نبع طفولته ضوءاً لإبداعه. ويبدو أن البشرية بعدما ابتعدت عن طفولتها، غدت شديدة الوله بتلك الطفولة التي كانت تضيئها أساطير عدة، فطفولة البشر أصبحت بعيدة زمانياً، لكنها سرعان ما تهبط فجأة فوق جبل أو قرية أو نهر.
نعم، على الرغم من إعلان «موت الأسطورة»، في محكمة المنطق العلمي، وظهور أفلاطون وآرسطو، إلا أن الأسطورة لم تقف مكتوفة اليدين، إذ إنها أخذت صوراً جديدة عبر تمحورات عدة، وتسربت في خيال البشر وأحلامهم، مثلما يتسرب الماء في مسامات حجر. وحافظت الأسطورة، بوصفها، كنز دلالات، وليست وقائع تاريخية، بسحرها الخاص، لذلك يبدو أن المبدعين مرتبطين بحبل طفولتهم السري والسحري، ولذلك، ربما، تعزز موقع الفنون والآداب بوصفها دروب معرفة وجمال ومتعة، تلامس الأسطورة التي تمثل طفولة البشرية. ولذلك أيضاً اعتبر الخيال درجة عليا من العقل. ومع أن الأسطورة نتاج خيال جمعي للبشر، كذلك فإن هذا الخيال ذاته هو مصدر كثير من المنجزات العلمية، ومنها الصعود إلى القمر واكتشاف تقنيات جديدة، فمن كان يتوقع أو يصدق أن الإنسان خالق الأسطورة الخيالية، يمكن في يوم ما أن يلمس تربة القمر، ذلك الجار الذي أضاء كثيراً من أساطير الشعوب، كما أضاء قلوب العشاق، وقصائد حب لاتزال تشعشع في الزمن وفي النفوس.
طفولة المبدع هي فردوسه السري، وطفولة البشرية هي معنى الأسطورة.