البلاد اشتاقت إلى أهلها

يوسف ضمرة

كان المسافر يقولها في لحظة مفاجئة. تومض في رأسه فكرة البيت والناس والأمكنة، وكل ما راكمته الذاكرة خلال سنوات، فيقرر أن البلاد اشتاقت إلى أهلها.. أي إليه هو المسافر البعيد. ولم يكن يدرك أنه في جملته تلك، كان يقوم بانقلاب لغوي ومعرفي، من دون أن يدعي أنه كاتب أو أديب. فهل البلاد تشتاق؟ إذا كان ذلك كذلك، فهي تحس وتشعر وتتنفس مثل البشر.. وإذا كانت البلاد بشراً مثلنا، فهي بالضرورة تتفجع على الفراق، وتتوق إلى لقاء الأحبة.. وهي تعتب وتغضب أيضاً، لأن أحبتها أحياناً يتجاهلون أشواقها.. وربما تتعب في انتظارهم أو تمل أو تصاب بيأس وإحباط مثلنا.

والبلاد تشتاق إلى أهلها لأنها من دونهم تتحوّل إلى مجرد مساحة جغرافية، ربما يرتادها الطير مقيماً أو عابراً. لكن للناس أنفاسهم التي صبغوا بها أفق البلاد وأمداءها. وهو ما يجعل البلاد تئن وتتفجع شوقاً إلى أهلها الغائبين.

لكننا لا نرى البلاد في الكتابة العربية هكذا. لا نشعر بها تتنفس أو تئن أو تتفجع أو تنوح أو تهلل فرحاً. لا نراها تفتح الأحضان أو تذرف الدموع.

لقد أدرك العربي من دون تنظير وفلسفات وما إلى ذلك معنى المكان، وكثف هذا المعنى في جملة واحدة «البلاد اشتاقت إلى أهلها». وهو أدرك ذلك من خلال علاقته الحميمة بالمكان.. البيت والكرم والحقل والزقاق والحارة والسيل الشتوي والبيدر الصيفي. وأدرك ذلك من دون أن يقرأ باشلار ومن سار على خطاه. وأدرك ذلك بحسه الإنساني النقي، الذي قاده إلى معادلة بسيطة في ظاهرها وعميقة في معناها. وهي أن العلاقة بين الإنسان والمكان ليست مجرد علاقة نفعية عابرة أو سهلة التفكك. بل هي علاقة كائن حي بكائن حي آخر، يؤثر كل منهما في الآخر ويتأثر به. لكن الكتاب والأدباء العرب لم يدركوا ذلك جيداً حتى اللحظة. فالمكان في الكتابة العربية مجرد أسماء وتواريخ. ولا نكاد نحتفظ في ذاكراتنا بروائح أمكنة أدبية، ربما باستثناء حارات نجيب محفوظ وأزقة أبطاله «بين القصرين»، و«خان الخليلي»، و«زقاق المدق»، وغيرها.

والغريب في الأمر، هو أن الكُتّاب العرب لا يكفون عن التنظير للمكان في الكتابة. وهو ما يشبه تنظيراتهم في النقد أيضا. فثمة الكثير من الكتابات النظرية في النقد الأدبي، وثمة القليل جداً من النقد. وثمة الكثير جداً من الكتابات حول المكان وفيه، وثمة غياب وسوء فهم لجوهر العلاقة بين المكان والإنسان في الكتابة الإبداعية. والسبب كما نراه ربما يكمن في شعور خفي أو مضمر لدى الكاتب العربي، يشي بتهميش المكان الذي فيه يعيش الإنسان أقسى أنواع العذابات البشرية، فيتحول المكان سيكولوجيا إلى طرف معاد ومحيط حاضن لبذور الشر والمعاناة. ويمكن القول هنا إن «ما يلمسه الكاتب العربي من استبداد وظلم وقهر، يجعله أحياناً يقيم شكلاً من أشكال التماهي بين ذلك كله وبين المكان، ما يجعل المكان في الكتابة العربية فاقداً روحه وأنفاسه ككائن حي قادر على إشعار ساكنه بالأمان كالرحم الأولى».

 

damra1953@yahoo.com  

تويتر