خيانة المترجم
ظلت الرواية العربية لأكثر من عقد تتناول في مضامينها تلك العلاقة الموجعة والمؤذية بين المثقف والسلطة. ويكفي أن نقرأ رواية مثل «شرق المتوسط» للراحل عبدالرحمن منيف، لنرى المعتقل السياسي الخاص بالسلطة العربية وكيف امتص روح المثقف العربي وقمع كيانه، ويكفي أيضا أن نطلع على كتابات إبداعية من شعر وقصة ورواية، حملت مصطلح «أدب السجون»، لندرك حجم الكارثة التي أوقعتها السلطة السياسية العربية بالمثقف العربي.
لكن السلطة السياسية العربية التي هي بالطبع أكثر ذكاء من المبدع العربي استطاعت أن تجذب المثقف إلى جانبها. هذا حدث في زمن الديمقراطيات المتتالية في الدول العربية، وغياب الحزب السياسي الذي ظهر على سطح الساحة السياسية، وصار يفقد تلك الجاذبية التي كانت تغذي الرغبة في الانتماء إلى الحزب السري. والحال أن اقتراب المثقف العربي من دائرة السلطة والتمتع بأعطياتها ومزاياها قد ولد عند هذا المثقف مصطلح «سلطة الثقافة».
هذه السلطة الماحقة والأشد قسوة من سلطة السياسي تناولها الروائي السوري فواز حداد في روايته «المترجم الخائن»، والصادرة عن دار رياض الريس، والتي وصلت إلى القائمة القصيرة في الجائزة العالمية للرواية العربية «بوكر» التي فاز بها المصري يوسف زيدان عن روايته «عزازيل».
رواية فوازحداد تقترب من مساحة روائية على مستوى المضمون لم تعالجها الرواية العربية من قبل، من حيث الدراسة المعمقة لفضيحة الثقافة العربية حينما تمتلك سلطتها القمعية وتحل محل السياسي.
وفي الدخول إلى فضيحة الواقع الثقافي العربي التي يسعى حداد إلى كشف تفاصيلها الموجعة من خلال روايته، نشعر أن «حامد سليم» بطل الرواية يذكرنا بالأبطال المستلبين الذين أخرجهم إلى حيز النور الحبري كتّاب مثل كامي وكافكا ودوستوفسكي. إنه البطل الذي يظل يبحث عن حيز آمن كي يُقيم فوقه هذا الحيز الذي يعطيه حقه في الحرية على الصعد الحياتية كافة. لكن قسوة السلطة غير المرئية تظل تقمع مثل هذا التطلع. «حامد سليم» من المثقفين المتواضعين الذين استدلوا على مهنة الترجمة الادبية، واستطاع أن يتكيف معها، لا بل يقترح عليها كمهنة تجلياته الخاصة، ومن هذه التجليات خيانته الأولى التي اقتادته إلى اقتراح خواتيم مختلفة عن ما أراده المؤلف الرئيس. واعتقد سليم أن هذا لن يؤذي القارئ في شيء، لكن الذي حدث أن السلطة الثقافية استطاعت أن تكشف اللعبة، حيث استطاع الناقد الجهبذ أن يكشف مثل هذه الخيانة عند المترجم، ليقوم بعد ذلك بفضحه وتعريته إلى درجة الإضرار برزقه، وحينما يحاول المترجم أن يقتص من ذاك الناقد يكتشف أن القضية ليست قضية خيانة في ترجمة بعض الأعمال، بل تتعدى ذلك إلى مواجهة موجعة بين المترجم والناقد، تفضي إلى اكتشاف مافيا أدبية حقيقية، لها سلطتها المطلقة في رفع من تريد أو محق من تريد أيضا.
إن الانزلاقات التي وقع فيها المترجم، وهو يدافع عن نفسه، كشفت عن مدى الفساد الثقافي العربي، وشلله القاتلة لكل من تسوّل له نفسه بالتوازي معها. وعلى الرغم من الإطناب الطويل في بعض مفاصل الرواية، إلا أن «المترجم الخائن» تظل وثيقة مهمة، تؤكد أن المثقف حينما تكون السلطة في يده يكون أشد قسوة من السلطة السياسية بكثير.