العودة إلى فلسطين

كل ما كان يُكتب عن فلسطين، كان يشتبك مع الراهن الفلسطيني، ويعاين التطورات والتحولات السياسية ونتائجها، سواء كانت في شكل المقاومة، أم في أشكال التشرد والضياع في المنافي والحنين إلى الوطن. ولم يتنبه الكتاب العرب عموما والفلسطينيون خصوصا، إلى أهمية العودة إلى المجتمع الفلسطيني وبنيته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية قبل النكبة عام ،1948 ودور هذه البنية في طبيعة الاشتباك اللاحق بالمشروعات الطارئة، وأهمها المشروع الصهيوني تحديدا.

لقد حاول الكاتب العربي الفلسطيني البداية من النتيجة التي آلت إليها مشروعات الاستهداف الغربية، وما ترتب عليها من نتائج. ولم يحاول حتى وقت قريب أن يلتفت إلى ما قبل تلك اللحظة التاريخية، متجاهلا حقيقة جوهرية مفادها أن قراءة الحاضر والمستقبل مرهونة بالضرورة بمراجعة الماضي.

من هنا نلتفت إلى بعض الكتابات الفلسطينية الجديدة التي انتبهت إلى الصورة الفلسطينية قبل أن تصيبها التحولات الهائلة.. الصورة الأولى التي لم نرها في الكتابات من قبل، حيث اكتفى الكتاب بتظهير الصورة الجديدة المملوءة بالإضافات والخطوط والألوان الطارئة.

هكذا صار علينا كقراء أن نتعامل مع كتابة فلسطينية جديدة، لا تقدم الفلسطيني بطلا أو شهيدا أو مشردا هائما ينوء تحت وطأة الحنين المرضي. وهكذا أخذت فلسطين تظهر كصورة حية من خلال أناسها وأمكنتها وحكاياتها ومفاهيمها وقيمها وأفكارها المتحركة، والمتفاعلة مع كل ما يمسها، بصرف النظر عن طبيعة النتائج. فظهرت رواية «زمن الخيول البيضاء» للكاتب والشاعر إبراهيم نصر الله، ورواية «أصل وفصل» للروائية سحر خليفة، إضافة إلى بعض المحاولات الأخرى التي لم تستكمل شرط العودة نحو الأصل تماما.

واللافت هو أن رواية نصر الله مثلا، دخلت إلى قائمة الروايات الست المرشحة للفوز بجائزة البوكر العربية، كما لاقت رواية سحر خليفة منذ صدورها اهتماما واسعا في الأوساط الثقافية العربية، ونتوقع لها أن تأخذ حيزا كبيرا في المشهد الروائي العربي.

وهذا الاهتمام يشير في وضوح إلى أهمية الموضوع أولا، وضرورة استخراجه من أدراج التاريخ والذاكرات، لكي نتمكن من رؤية الفلسطيني كائنا بشريا بعلاقاته الإنسانية، ولكي نعرف جيدا موقعه في البنية الاجتماعية والثقافية والدينية والسياسية التي أسهمت في تشكيل سيكولوجيته، ولئلا نكتفي بالتعامل مع هذا الإنسان كمنفي ومشرد ومقاتل وصورة على جدار منزل بائس في مخيم عابر، صار في وسعنا الآن أن ننظر إلى الفلسطيني ابنا شرعيا لكيان محدد تاريخيا وجغرافيا وثقافيا، وصار في وسعنا أيضا أن نفهم السياقات التي حدثت فيها كافة التحولات السياسية والاجتماعية التي أصابت الفلسطيني، وليس توثيقا أو تأريخا نظريا، بل من خلال إعادة كتابة البنية ذاتها، من زوايا رؤية عدة، متباينة ومتقاربة، ما يسمح لنا بتشكيل صورة أكثر اتساعا ووضوحا مما يوفره لنا التوثيق والتأريخ، وصار بوسعنا أن نقرأ الراهن الفلسطيني في وضوح أكبر، ونستطلع ملامح المستقبل الفلسطيني أيضا في وضوح أكبر، طالما امتلكنا مفاصل البنية الأساسية بكل ما احتوته من ثقافة ومفاهيم وأفكار وقيم.

ولعل هذه الكتابات الجديدة، تشكل منحى مهماً في الكتابة الفلسطينية، نأمل أن يتطور ويتسع ويمتد ليشمل مفاصل عدة في الجغرافيا الثقافية الفلسطينية.


 

damra1953@yahoo.com

الأكثر مشاركة