مئوية ريتسوس

يمكن الجزم بأنه ما من شاعر استطاع أن يحفر عميقاً في ملامح القصيدة العربية المعاصرة مثل الشاعر اليوناني «ريتسوس» الذي يحتفل العالم هذه الأيام بمناسبة مرور 100 عام على ولادته. والغريب أن الشعراء العرب والثقافة العربية عموما، باستثناء بعض الكتابات، هم أقل جهة احتفالية بالحالة العظيمة التي أحدثها هذا الشاعر، في الشعر اليوناني بشكل خاص والعالمي بشكل عام.

وقد مرّ الشعر العربي المعاصر على صعيد التأثر وإعادة النتاج الغربي من الشعر بنطق عربي بخيانتين: الأولى حدثت في زمن الأمية اللغوية التي عاشها المثقف العربي في وقت مبكر وعدم معرفته باللغات الأخرى، حيث كان يقوم الشاعر أو الكاتب الذي أتاحت له الظروف الاطلاع على لغات العالم، وإجادة بعضها، وفي عتمته الابداعية الخاصة بفراءة العديد من القصائد والأعمال بلغتها الأساسية، ليقوم لاحقاً بسرقة الأسلوب الذي تكتب به هذه الأعمال، وإعادة إنتاجها باللغة العربية. وكم من مبدع عربي استطاع أن يحجز له مقعداً مع الرواد الأوائل بسبب هذه القدرة الاقتناصية على قراءة المنجز الغربي بلغته، ومن ثم إعادة إنتاجه عربياً، وهذا ما يمكن تسميته بخيانة بعض الرواد.

أما الخيانة الثانية، فتتمثل في التأثر بأعمال شعرية تمت ترجمتها للعربية، فأخذت هذه الترجمة تبيض لنا أجيالا من الشعراء الذين يعتمدون في إطلالتهم الشعرية على المنجز الشعري الغربي المترجم، وكم هي القصائد العربية التي حينما قرأ أصحابها «المركب النشوان» للشاعر الفرنسي آرثر رامبو أعادت إنتاج ما يمكن تسميته بحق «القصيدة الرامبوية». وكم هي القصائد التي سوقت علينا عربياً، بينما هي في الأساس إعادة لقصائد الشاعر اليوناني «كفافيس»، أو اعادة للقصيدة البودليرية، أو إعادة عرجاء لرائعة ، ت.س. إليوت «الأرض الخراب». لكن، المهم في هذا المقال هو تلك الهجمة العربية على أعمال الشاعر اليوناني «ريتسوس» الذي ما إن قام الشاعر العراقي سعدي يوسف في كتابه المترجم عن ريتسوس الموسوم بـ«إيماءات»، والصادر عن دار ابن رشد عام ،1979 الذي وما إن نشر حتى صارت القصيدة العربية الشبابية على الاقل آنذاك تنهل من هذا النبع.

نعم، إن الشاعر العربي في تاريخه الشعري قد استدل على ما يسمى بيت القصيد الذي يختزل أحيانا قصيدة بكاملها، لكنه لم يعرف بالقصيدة القصيرة أو «البرقية» المختزلة التي أسس لها «ريتسوس» في تجربته الشعرية، وصارت تميز تجارب العديد من شعراء قصيدة النثر العربية لاحقاً.

و«ريتسوس» الذي أسس بحق للقصيدة اليومية التي تتناول التفاصيل اليومية الصغيرة، وتعيد إنهاضها بأسطرة اليومي المشعرن، والقادرة على منح هذه التفاصيل التي تبدو عادية في اليوم الإنساني قدرتها الخاصة في التخليد، كمنجز شعري، هي التي جعلت شعراء العربية يتقاطرون على القصيدة اليومية، وانهاضها عربيا، مثلما حدث في معظم القصائد العربية الحديثة، وتسويقها على القراء العرب، باعتبارها من الاكتشافات العربية الخالصة. ربما من هنا، يمكن معرفة سبب التنكر العربي لمئوية «ريتسوس»، وعدم الاحتفاء بهذا الشاعر الذي له الفضل الكبير على المنجز الشعر العربي المعاصر، وهذا ما يمكن اعتباره بالجحود الكبير من التلميذ الذي تنكر لمعلمه الأول وحاول طمسه.

khaleil@yahoo.com

الأكثر مشاركة