عزلة
للعزلة أشكال متعددة، مثل المنفى تماماً، فهناك عزلة إجبارية أو اختيارية أو مرضية، ففي الحالة الأولى، تكون تلك الحالة سالبة للحرية، كما التهجير، فهي قسرية ضد إرادة الإنسان، وتتمثل غالباً في السجن الذي يصبح «فضاء آخر» تدور فيه وتتناوب أشكال الموت والحياة والعتمة والضيق. وكثيراً ما نسمع عن معتقلين سياسيين أو غيرهم لا يتمكنون من الاندماج والتفاعل مع مجتمعاتهم بعد خروجهم من المعتقل، إذ إنهم يحتاجون إلى «إعادة تأهيل» من أجل التواصل مع الحياة خارج القضبان.
أما العزلة الاختيارية فتتعدد أشكالها أيضاً، فمنها ما يمكن تسميته «عزلة إبداعية»، إذ يلجأ كاتب إلى تلك الحالة من أجل إنجاز عمل شعري أو روائي أو موسيقي، مثلاً، وهنا، لا تكون العزلة معتمة تماماً، فهي شفافة، أو كما لو أن الإنسان يرى محيطه بعينين شبه مغمضتين، يتأمل نفسه والمشاهد والحياة والذاكرة في جو خاص به. وتكون النتيجة عملاً إبداعياً يخرج من تلك العزلة إلى فضاءات الناس. وهناك عزلة الأعالي التي يختارها المتصوف أو الناسك، لتصفو مياه الروح بعيداً عن ضجيج الآلات والثرثرات.
لكن العزلة المرضية هي صورة أخرى، قد تتمثل في انسحاب إنسان من محيطه المجتمعي والعائلي، والانكفاء على الذات باعتبارها العنصر الوحيد الذي يتفاعل معه. كما تدخل في هذا الباب عزلة المصابين بـ«أمراض عقلية» من خلال إيوائهم في «مصحات عقلية»، وفي هذه الحالة، تكون شكلاً من أشكال العزلة الجبرية.
ما قادني الى الكتابة عن هذه «العزلات»، حديث دار بيني وبين صديق عائد من كندا، إذ تحدث عن «عزلة بيضاء»، ربما هي نتاج تراكم الثلوج في ذلك الزمن الكندي، وبالتالي انعكست طبيعة المكان على طبائع الناس، في مناطق عدة من تلك البلاد. وأوضح هذا الصديق أنه كان يفتش عن حوار، وعن روابط اجتماعية، إلا أن سلطة العزلة كانت أقوى، إذ الحرارة مفقودة في الجو والعلاقات. وقال: إذا قابلك جارك فإنه يلقي عليك التحية، ويضع بعدها نقطة، وليس فاصلة تحتمل التواصل أو الحوار حول أي شيء في الحياة الموسومة هناك بالأبيض المتجمد. وإذا كان مع جارك طفله، فلا تقترب من ذلك الطفل، فإن هذا الاقتراب لا يفسر «من غير سوء». وحتى لو كان برفقة جارك كلبه المدلل، فلا تقترب أيضاً من ذلك الكلب، إلا بإشارة رضا من ذلك الجار القريب في موقع السكن، والبعيد في ثلاجة العزلة.
الصديق العائد قال لي إنه قبل سفره ودع دراجته الهوائية التي كانت صديقة له، كما ودع بط الحديقة التي لا تبعد كثيراً عن مكان سكنه، إذ كان يتنقل على دراجته، عندما يفك الجو بعض سلاسل العزلة، ويذهب الى تلك الحديقة حاملاً كيساً من الخبز، ليطعم البط الذي يتلقف قطع الخبز بمزيد من البهجة والألفة.
ربما نحتاج إلى أشياء بسيطة لنعبر إلى المعنى المغطى بقشة أو بقطعة جليد.