محمد عمر المختار
أثار مشهد محمد عمر المختار، وهو يهبط بخطى متثاقلة من على سلالم الطائرة الليبية التي حطّت به في روما أول من أمس، صوراً بعيدة لميراث ثقيل سيظل ينوء به القاتل، بين زمنين ورجلين، وذاكرة دقيقة الحفظ والوصف.
حضور الرجل كان أكثر تكثيفاً من أي دلالة، وأشد وضوحاً من أي معنى، فهو ابن عمر المختار المقاوم الليبي الأسطوري الذي قاد ثورات ضد المستعمر الإيطالي، ومنعهم من السيطرة التامة على بلاده رغم القبض عليه في ميدان المعركة ومحاكمته في روما، وإعدامه شنقاً العام .1931 فالمختار الابن اليوم في إيطاليا، والتاريخ لايزال يفتح الرواية على مشهد ظنّ المستعمر القديم أنه أغلقه تماماً حينما أعدم الأب.
كثيرون تابعوا الحدث على التلفزيون، وتمتموا بعبارات عن تقلّب الأزمان والدول، وثمة من فوجئ بغرائبية الحياة، وثمة من كان يحدق في المصائر، وهناك من أصابه زهو البطولة، وغمرته مشاعر الانتصار بعد 78 عاماً على مشهد بطل يتدلى من حبل مشنقة في الصحراء.
هبط المختار الابن إلى مطار روما، كان يضع على صدره نيشاناً بدائياً، يتكون من صورة والده التي كُتب تحتها «المجاهد عمر المختار». ساعده مرافقون على تجاوز الهبوط، ووضعوه على كرسي متحرك، فهو في شيخوخة لا تضاهيها سوى شيخوخة إيطاليا بيرلسكوني. هذا هو اللقاء الثاني بين الرجلين، فقد تصافحا قبل عام، واعتذر رئيس الوزراء الإيطالي عن جرائم بلاده وتاريخها الأسود في ليبيا.
الابن يحمل اليوم إرث والده وصورته، يسير على كرسي متحرك، وليس هناك من بندقية، ولا حصان. أكثر ما يريد أن يقوله لأحفاد المستعمرين أنه حيّ يُرزق إلى اليوم الذي تخجلون فيه مما تتذكرون. حيّ لكي لا تنتهي الحكاية مصادفة، ولكي لا تموت الصورة من دون لون مختلف، أو حركة أخرى، وإيقاع جديد.
لقد طوت إيطاليا صفحة الفاشستيين، وذرّتهم رمال الصحراء الليبية، وهذا هو الابن يتقبّل عن أبيه كلمات تروي خجل المستعمر من ماضيه، وفي البال تلك العبارة التي كان يقولها لأعدائه الذين كانوا يفاوضونه على الاستسلام: «نحن لا نستسلم، ننتصر أو نموت، وهذه ليست النهاية، بل سيكون عليكم أن تحاربوا الجيل القادم والأجيال التي تليه، أما أنا فسيكون عمري أطول من عمر جلادي».
يعيش عمر المختار الآن في الذاكرة العربية. معظمنا يحفظ مشاهد الفيلم الذي صوره المخرج الراحل مصطفى العقاد عنه، ولا نجد مقاربة تجسده لنا سوى صورة أنطوني كوين، بلحيته البيضاء ونظارته الصغيرة التي تركها خلفه في إحدى المعارك مع المستعمرين.
انتهى فيلم العقاد بإعدام عمر المختار، وتردد في دقائقه الأخيرة أن الشعب الليبي ظل يقاوم المحتلّ أكثر من عقد كامل بعد شنقه أمام المقاومين. وربما لو عاش العقاد لسرّه أن يرى صوراً محذوفة من فيلمه في مشهد عمر المختار الابن في إيطاليا، وربما لاختار لفيلمه نهاية أخرى، عن الحياة التي لم ينجح الموت في كسر قوتها وسطوعها.