السائل السحر

على رغم محاولات الشعراء تعريف الشعر، فإن مقولة جان كوتو: «الشعر ضرورة، وآه لو أعرف لماذا» ظلت تنطق بالكثير من الغموض الذي يقود مخيلة الشعراء من عالم جمالي إلى آخر.

ليس هناك من جنس إبداعي اختُلف بشأن تعريفه على صعيدي المبنى والمعنى، كما اختلف النقاد بشأن الشعر، وسطّروا آراء عدة، منها أنه كلام موزون ومقفىً يدل على معنى، ومنها أنه يثير كوامن النفوس ويهيّجُ المشاعر، ومنها أنّه صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير، ومنها أنه ديوان العرب، ومنها أنه الصدق، ومنها أنّ أعذبه أكذبُهُ أو أحسنه، ومنها أنه سائل سحري أخضر اللون، ذهبي الشعلة، أبديُ التوهج، وغيرها من الأقوال التي تشعبت، ولم تصل إلى قول مانع جامع يُعرّف هذا النشاط وجمالياته الخلّبية، أو هذا الشهيق العاصف بالحسرة، ويجعلنا نرى هذا السائل السحري الذي يعيش تحت الجلد معرفاً مثل وصفة لعلاج تشقق الأظفار، أو إزالة الدهون وغيرها من المنتجات المتفق عليها.

بيدَ أنّنا لن نسوق هنا مرافعة طنانة، نستظهر فيها المنزلة السامية التي يتبوؤها الشعر الذي انتصر دائماً على الأيديولوجيا وتعقيدات العلم، وكذلك الفلسفة، ولن نأخذ بالمقولات التي تؤكد أنه فن لن يموت أبداً، لأن هذا الفن هو الذي ينام معنا في الأسرّة، ولن نسأل كذلك لماذا نبذ أفلاطون الشعراء من مدينته الفاضلة، لأنهم أبعد ما يكونون عن الحقيقة، وبالتالي الأكثر قرباً من الأساطير، لأن هذا النبذ انقلب إلى إيلاء الشعر اهتماماً مضاعفاً، ولم ويغرقه في انكفائية الذاهلة، بل فتح له الباب فدخل على قارئه باستمرار بجماله وغموضه وأشكاله المتعددة، إضافة إلى تعريفاته المسهبة والمقتضبة في آن،

من اللافت والغريب أن تكون كل هذه الأغراض المتنوعة موجودة في الشعر، إلا أنه سيظل أبعد ما يكون عن تحديده ضمن ماهية محددة، مثله في ذلك مثل المزايا الجميلة في الطبيعة وفي النساء، والتي قد تكون ظاهرة معلنة، وقد تكون مخفية في طيات تدهشنا، ويقف الكلام عاجزاً أمام روعتها ومن أين جاءت؟ وما هو سر تركيبتها ؟وما هي الكيمياء التي تقف وراء تألقها؟

وبناء على هذه المعطيات مجتمعة تصبح محاولة تعريف ماهية الشعر مجرد إحالة تحيلنا إلى وجود إشكالي كل ما فيه يخضع إلى مزاوجة تفر من مركزية الأنا، فما إن تدخل عتباته حتى تجد نفسك في بيت الثعالب فلا مألوف ولا معاش، وإذا رأيت الرأس فهذا لا يعني البتة أنك سوف ترى الذيل هناك، وإذا اتضحت غشاوة في هذه الجهة فالغموض هو العنوان في الجهة الأخرى.

وأخيراً يبدو أن هذه الأسباب هي التي جعلت الشعر يعيش توهجه الذي يقول للنقاد والشعراء معاً: لا تختلفوا في تعريف ما أنا عليه.. فأنا حمّال لأوجه، ولا بد لكم من عقد جملة من المصاهرات بين كل التعريفات، من دون أن تحسموا أو تركنوا إليها، وبهذا، يعود بنا جميعاً لكي نقف تحت واجهته المهيبة، نتلذذ بتأثيره الغامض ولا نعرف لماذا؟.

zeyad_alanani@yahoo.com

الأكثر مشاركة