الحق الضائع

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

النخل ذو الأكمام، منة الله تعالى على الأنام، فيه من الخير ما لا يُحصى، ومن النفع ما لا يُستقصى، فهو طعام للإنسان والحيوان، وهو غذاء ودواء، وهو فرش وسقف، وهو غير ذلك مما لا يدخل تحت حصر، وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم فضل النخلة بقوله «إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم، فحدثوني ما هي»؟ فوقع الناس في شجر البوادي، قال عبد الله بن عمر «وقع في نفسي أنها النخلة، فاستحييت»، ثم قالوا «حدثنا ما هي يا رسول الله؟» قال «هي النخلة»، وكان من إكرامه لها ومحبته لها يقول «أكرموا عمتكم النخلة، فإنها خلقت من الطين الذي خلق منه آدم، وليس من الشجر شيء يلقح غيرها»،

هذه هي النخلة التي تتدلى عذوقها هذه الأيام، تحمل الخير الوفير من الثمر الطيب أكله، الشهي طعمه ولونه، الذي تتزين به الطرقات والحدائق ذات البهجة، وتشرئب إليه أعناق الفقراء، يود أحدهم أن يتمتع بفاكهة الصيف الهنية الشهية، وقلما ينالون منها إلا بالثمن الباهض، والناس لا يفطنون لهم لاستغراق ثمرهم في الهدايا والادخار وقليل من البيع، ويتناسون الحق المعلوم المفروض في يوم الحصاد، الذي هو زكاة للفقراء والمساكين والعاملين عليها والغارمين وأبناء السبيل، هذه الزكاة التي لم يُعف الله تعالى المزارعين منها أو يؤجل بذلها، بل قال سبحانه في شأنها { وَهُوَ الذِي أَنْشَأَ جَناتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنخْلَ وَالزرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزيْتُونَ وَالرمانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنهُ لَا يُحِب الْمُسْرِفِين}.

لقد سألني أحد من الناس وقال إنه يوزع ثمار نخله ولا يبقي لنفسه إلا قليلاً، فهل بقي عليه شيء؟ فقلت نعم، ليتك أديت حق الله تعالى منها وأبقيت لنفسك الكثير، فقال: أولست أوزعها على الناس؟ قلت: نعم، ولكن هدايا ومِنّة منك على الأغنياء الذي يبادلونك أنواعاً أخرى من ثمارهم، وهذه ليست زكاة، فللزكاة مصارف ليس منها ما ذكرت، وحق الفقراء مازال في ذمتك، قال لي: وكيف أؤدي هذا الحق؟ قلت: بأن تقدّر ما في هذه النخيل من الثمر، فإن علمت أنه يبلغ نصاباً فأكثر ـ وهو خمسة أوسق، أي 653 كيلو غراماً ـ فاعلم أن واجبك فيه نصف العشر لكونه يُسقى بالآلة، وبعد ذلك ُلْ وتصدق واهدِ وبعْ وادخر ما شئت، بعد أن تَقَرّر في ذمتك حق الفقراء، فمهما وجدت مستحقاً ولو في متلاحق الثمر، ولا يلزمه أن يكون من باكورته وطلعه، فأعطه جزءاً من تلك الزكاة حتى تستنفد ما عليك، فتكون بذلك قد أديت شكر النعمة وواسيت المستحقين، قال لي: لكني لا أعرف القدر الواجب، قلت: أولست زارعاً؟ أوليس لك مزارع؟ فالمزارع يخرص الثمر أي يقدر ما فيه من كمية، وهو على أصول النخل، ويعرف ذلك بخبرته، وهو وإن كان ظنياً إلا أن ذلك معتبر شرعاً.

هذا هو الحق الضائع الذي يغفل عنه الكثير، مع أنهم يبذلون ما يشكرون عليه، إلا أنهم ينسون هذه الزكاة المفروضة للمستحقين من أصنافها، ولو أنهم بذلوها لكان ذلك أكثر بركة لثمارهم، وأتقى لربهم، إذ لا يجزئ عنها شيء مما يُبذل على غير وجهه، فإن الزكاة عبادة تفتقر إلى نية، وإلى مستحقين، فلا بد من بذلها على وجهها الصحيح، شكراً لله تعالى على نعمائه، ومواساة للمسلمين.

❊ كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء بدائرة الشؤون الإسلامية والأوقاف في دبي

تويتر