راجع صلاتك.. لو سمحت
أمسك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بيد رجل في المسجد وقال للحاضرين: من منكم يشهد لهذا الرجل «أي يضمنه»؟ فقام رجل وقال أشهد بأنه رجل صالح ثم جلس. فأوقفه عمر وقال له: هل أنت جاره الأقرب؟ فقال: لا. فسأله عمر: هل رافقته في سفر؟ فقال: لا. فسأله عمر: هل عاملته بالدرهم والدينار؟ فقال: لا. فإذا بأمير المؤمنين يقول له: اجلس أيها الرجل الطيب فإنك لا تعرفه، ثم قال له عبارة لو أنصف عاقل نفسه لوضعها نصب عينيه في كل عمل يعمله أو قول ينطق به أو مجلس يجلسه أو جدل في الدين أو تعصب لرأي أو استخفاف بالرأي الآخر. قال عمر للرجل بعد ما رد شهادته: لعلك رأيته يتمتم بقراءة القرآن في المسجد فغرتك هذه التلاوة فظننت أنه رجل صالح!
لله درّك يابن الخطاب، جمعت بعبارتك كل مقاصد الدين التي أتعب الفقهاء أنفسهم حتى وضعوها وشرحوها في مجلدات ضخمة، وخلاصتها قول النبي صلى الله عليه وسلم في أسلوب قصر واختصار «إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، أما عناصرها الخمسة فهي حفظ المال والعقل والنفس والدين والعرض لكل الناس، والإنسان مكلف بحفظ ذلك في نفسه وفي غيره، ولو على غير الملة، فهي حقوق الإنسان على أخيه الإنسان. وما العبادة إلا إقرار بالعبودية لله والطاعة لأوامره ووسيلة لتطهير النفس وسموها عن المحرمات، وتأهيلها للحفاظ على مقاصد التشريع، فلو صلى أحدنا وقرأ القرآن وتعبد وهو لايزال على إيذائه لنفسه ولغيره بفعل ما ينهى الشرع عنه فإنه ما صلى ولا صام ولا قرأ القرآن، فلو صحت عبادته لغيّرت حاله وحسّنت سلوكه، فإنها تمحو الذنوب فتسمو الروح وترق الطباع ويشعر الكون كله بخفة هذا العابد وصلاحه، ويوضع له القبول في الأرض وفي السماء، قال ربنا عز وجل: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} 45 العنكبوت. وقال نبينا صلى الله عليه وسلم «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له»، فالمسألة كما وصفها سيدنا عمر بن الخطاب يشهدها الجار في أخلاق جاره يغار عليه ولا يغار منه، ويحافظ على حرمته فلا يتطلع إليها، ويشهدها المسافر في آداب الرفقة مع رفيقه بالإيثار لا بالأنانية، وبالكرم لا بالطمع، والمقرض في عفة وأمانة المقترض، والبائع والمشتري في تعاملاتهما، وحتى في الخلافات بين الأهل والزملاء والجيران لابد أن يتميز العابدون بعفة ألفاظهم وحسن خلقهم، وكما قيل ليس المهذب من يشيد بنفسه إنما المهذب من يشيد الناس بخلقه، فالصلاة وكذا كل العبادات تريح النفس وتغير كيماويتها، لذا كان صلى الله عليه وسلم عند الكرب ينادي: أرِحْنَا بالصلاة يا بلال، كيف لا وهو الذي قال «إِن الْعَبْدَ إِذَا قَامَ يُصَلي أُتِيَ بِذُنُوبِهِ فَوُضِعَتْ عَلَى رَأْسِهِ أَوْ عَاتِقِهِ فَكُلمَا رَكَعَ أَوْ سَجَدَ تَسَاقَطَتْ عَنْه» (رواه ابن حبان) فمن تساقطت عنه الذنوب لابد وأن يتغير بصلاته، لكن إذا صلى وصام وقرأ القرآن ولم يتغير فهل الخلل في العبادة؟ أم في وعد الله للعابدين؟ أم الخلل في الفصل بين العبادات والمعاملات؟ راجع لو سمحت!
#المستشار التربوي لبرنامج «وطني»