التقاعد القرائي
تظل القراءة الأدبية والإبداعية هي المؤسس الأول لمخيال المبدع، وشحنه بالقوى الإبداعية المختلفة بكل أنواعها. وتبدو القراءة وكأنها الديدن الأساس والرئيس لتطور القوى الإبداعية وإنهاضها واستثارتها باتجاه الكتابة الجميلة والمدهشة. والقراءة هي العين الناهبة للصور والمشاهد الحياتية التي تبثها الشخصيات المكتوبة والمقروءة، إلى جانب ما يتأثث في المبدع من مشاهدات حياتية لشخوص وأماكن وتجارب حياتية. وتتفوق الكتابات في العالم أجمع وحصول العديد منها على جوائز عالمية، تعود في الأساس إلى تلك الموهبة الكتابية المدعمة بالقراءة الواعية والناضجة. إن المبدع الذي يقدم لي كتاباً يُريني من خلاله فتوحاته الكتابية الجديدة يقودني في الواقع إلى منطقة كتابية جديدة، ويحفزني على الانتقال إلى عتبة أخرى في الكتابة. ولهذا، تظل القراءة وعملية التواصل المستمر معها حالة خاصة ومهمة لأي كاتب يسعى إلى تطوير ذاته وتخصيب ذائقته.
إن الكاتب الارجنتيني «بورخس» الذي أعماه الوجود المضني في المكتبات استطاع، وبعد فقدانه بصره، أن يواظب على الجلوس مع أحبائه وأصدقائه كي يستمع لقراءاتهم، كي يظل على صلة مستمرة مع القراءة. ومن تابع الروائي المصري الراحل نجيب محفوظ في أواخر أيامه كان يلحظ أنه يضع في جيبه عدسة قادرة على تكبير الحروف، كي لايفقد لذة القراءة. وفي مراجعة للسير الذاتية لبعض الكتاب العالميين، نلحظ أنهم كانوا قد وهبوا من وقتهم اليومي الساعات الطويلة خصيصا كي يظلوا على تواصل مع القراءة.
ومن القصص التي تدلل على الانهماك القرائي عند العقاد أنه كان قد اختار من أحد اكشاك بيع الكتب القاهرية كتاباً يتحدث عن حياة الممثلة الفرنسية بريجيت باردو، ما جعل البائع ينتفض قائلا «هل يعقل أن يقرأ كاتبنا العقاد مثل هذه الكتب؟»، فرد العقاد «ولماذا لا أقرأها؟» فرد البائع بسرعة «لأنها سخيفة، ولا تناسب مقامك الفكري»، فرد العقاد «أريد أن أكتشف سخافتها على طريقتي، لا على طريقتك». لكن العلاقة القرائية عند العديد من الكتاب العرب تبدو وكأنها أحيلت إلى ما يمكن تسميته بالتقاعد القرائي، بمعنى أن العديد من هؤلاء بدا وكأنه اكتفى بالتحصيل القرائي الذي واكب انطلاقته الشبابية، أي أنه استطاع تحويل هذا المخزون القرائي إلى حصالة لغوية غير قابلة للتجديد. ويمكن ملاحظة ذلك من حالة النضوب الإبداعي التي تصيب العديد من الكتاب العرب، كما يمكن ملاحظة ذلك من خلال المضغ اللغوي الذي يستعمله هؤلاء الكتاب، والافتقار إلى تجديد المفردات. ومن المآسي التي صارت ترينا هذا الافتقار إلى القراءة هو مكوث العديد من الكتاب والشعراء العرب في مساحة اللغة. وتعني هذه الإقامة ببساطة خلو هذه الكتابة من الاحتكاك الحقيقي مع الحياة ومشاهدتها بعين القراءة الخصبة. وكم هم الشعراء الذين قادهم الفقر القرائي إلى استعمال تعبيرات عن طائر النورس، على سبيل المثال لا الحصر، بينما الواحد منهم لم يشاهد في حياته النورس، بل إن مدى رؤيته المائية لا تتجاوز حوض «البانيو» الذي يستحم فيه. إن التقاعد القرائي الذي صار ظاهرة عند العديد من الكتاب العرب، والذي حدث بحكم الاعتقاد بالاكتفاء، قادنا إلى كتابات مثقلة بالزوائد اللغوية، ومفرغة تماماً من تلك الدهشة التي تصنعها المواظبة على تلك القراءة الدسمة القادرة على إنهاض المخيال وتأجيج أواره.