السرد ولغة الشعر

يوسف ضمرة

يتباهى العديد من الكتاب العرب بلغتهم الشعرية في كتاباتهم السردية كالقصة والرواية مثلاً. ولا تقع اللائمة فقط على هؤلاء الكتاب، بل هي خرجت في الأساس من بعض الأقلام النقدية العربية التقليدية، التي لا تفرق بين خصائص لغة السرد ولغة الشعر. ولا تفرق أيضاً بين اللغة الشعرية واللغة الشاعرية.

وهؤلاء النقاد لايزالون مربوطين بالماضي التراثي النمطي الذي كان سائداً في مناهج التعليم المدرسي والجامعي. ولم تتح لهم فرصة اكتشاف العلاقة الحقيقية بين ما كان وما استجد من تطورات في المفاهيم والأفكار، طالت اللغة والبنية معاً.

ويعود سبب الولع باللغة الشعرية عربياً إلى كون الشعر هو المرجع البلاغي الأوحد في حياتهم. ولم ينجح الانفتاح على الأجناس الأدبية الأخرى في سرقة قليل من وهج البلاغة الشعرية عند العرب حتى اليوم، على الرغم من التباهي الكبير الذي نشهده عند كثير من الكتاب العرب في الرواية مثلاً، إلى حد القول إن الرواية أصبحت ديوان العرب، وهو قول ليس على درجة كبيرة من الدقة، على الرغم من شيوع الرواية العربية كتابة وقراءة. فلايزال الشعر حتى اليوم سيد المنابر والبلاغة العربية. ولعل التذكير بعدد المهرجانات والملتقيات الشعرية العربية سنوياً يؤكد ذلك. وبالتالي، فإن اللاوعي الجمعي العربي لايزال يرى في لغة الشعر سحراً خاصاً وبلاغة فائقة، منذ أن عجز العرب الأوائل عن مقارنة بلاغة القرآن الكريم إلا بالشعر، فوصفوا النبي بالشاعر، والقرآن بالشعر.

والغريب في الأمر هو أننا حتى اليوم لانزال نرى أن لغة الشعر هي الأكثر صلاحية وملاءمة للأجناس الأدبية الأخرى، على الرغم من اختلاف هذه الأجناس في جوهرها، ما يعني بالضرورة اختلافاً في اللغة أيضاً.

فبينما تعتمد لغة الشعر الإيحاء والعلامات والإشارات والرموز، وبينما يشكل الانزياح اللغوي في الشعر ركيزة أساسية، فإن اللغة السردية مطالبة بغير ذلك. فلا يمكن التعويل على الانزياح اللغوي في القصة والرواية، ولا يمكن الاتكاء على الرموز والإشارات وحدها. فالانزياح كما نعلم هو إيراد الكلام في غير معناه المألوف. وهو أمر يشكل في السرد معضلة كبيرة، طالما كانت الحكاية هي أس القصة والرواية. ولا نظن أن الحكاية تستقيم بلغة الشعر التي تسهم في خلق مناخ من التهويم والتأمل، ربما يسهم في تشتت الحكاية التي ينبغي لنا نقلها إلى القارئ.

ولكن هذا لا يعني أبداً اعتماد لغة الإخبار والإنباء، بمقدار ما يعني اجتراح لغة قوية ذات إيقاع بلاغي واضح، يشكل في علاقاته بالحكاية والشخوص والوقائع مناخاً شاعرياً، من دون اعتماد لغة الشعر القابلة للكثير من تعدد المفاهيم والصيغ.

لغة الشعر لا تصح إلا في الشعر وللشعر، وربما في السحر وللسحر. فقد ارتبطت قديماً بالسحر، حيث ضبابية المعنى وازدواجيته وانفتاح باب التأويل على مصراعيه. ولغة السرد لا تصح إلا في السرد وللسرد. ولا يصح أبداً أن نستخدم لغة السرد في الشعر، لأن الشعر يفقد بذلك ركيزته الأساسية التي تشكلها لغته. فلا نفرحن كثيراً بوصف لغتنا السردية بالشعرية، لأن في ذلك انتقاصاً منها لا إعلاءً من شأنها كما قد يظن البعض.

 

damra1953@yahoo.com

تويتر