بندقية تشيخوف!

كلما قرأت نصاً يفيض بالزوائد، تذكرت على الفور بندقية تشيخوف، تلك التي إذا ظهرت في مشهد مسرحي، فإن عليها أن تطلق النار في مكان ما! وهو ما يعني مباشرة أن هذا الكاتب العظيم كان يمتلك حساً نقدياً عالياً، قلما يوجد عند الآخرين. وهذا الحس هو ما جعل نصوصه القصصية خالية من الشوائب والزوائد، واقتصرت فقط على ما هو ضروري للنص وللمتلقي على حد سواء.

وحين ننظر إلى كثير مما يكتب اليوم في الساحة العربية، فإننا نلحظ غياباً شبه كلي لبندقية تشيخوف، وهو غياب تقف وراءه أسباب عدة.

ولعل أول ما يخطر بالبال في هذا السياق، هو ضعف الثقة في القارئ، وهو ما يجعل الكاتب مدفوعاً للإسهاب والاستفاضة، ظناً منه أن عليه أن يكون واضحاً تماماً، وأن تصل مقولاته إلى القارئ بسهولة ويسر. وهذا الكاتب لا يعرف لمن يتوجه خلال كتابته، ولا يعرف لمن يقوم بإرسال رسالته. وفي الجهة الأخرى، فهو أيضاً لا يعرف الدور الحقيقي للقارئ خلال تلقي النص.

على الكاتب أن يدرك أنه يتوجه إلى قارئ لديه الحد الأدنى من الثقافة القرائية، ما يعني أن هذه الكتابة ليست موجهة إلى الجميع. وما نسمعه من دور الكتابة في تشكيل وعي جماهيري، لا يعني أن الجماهير كلها ستقرأ ما يكتب. بل علينا أن نعترف بأن نسبة القراءة الأدبية في المجتمعات كلها أقل بكثير مما يتوقع الكثيرون. وهي نسبة أسهمت في تحويل الكتابة إلى فعل نخبوي، طالما كانت القراءة ذاتها فعلاً نخبوياً. وهذا لا يعني أن المواطن العادي لا يحب القراءة، أو ليس معنياً بها، بمقدار ما يعني أن القراءة فعل اختياري في المقام الأول، وهي تزداد بالضرورة في المجتمعات التي تتبنى سياسات ثقافية متقدمة، ووعياً عُلوياً بأهميتها في تشكيل الوعي الاجتماعي، وفي صياغة الذائقة وصقلها وتوجيهها. وعليه تصبح القراءة في المجتمعات الديمقراطية أكثر انتشاراً وأهمية مما هي عليه في المجتمعات المتخلفة سياسياً وثقافياً واقتصادياً. وهنا يكون على الكاتب أن يدرك أنه يتوجه إلى نسبة ضئيلة من الناس، خصوصاً في المجتمعات العربية، حيث يعاني المواطن انعدام الحريات، وغياب الديمقراطية الحقة. ويمضي حياته باحثاً عن لقمة العيش التي لا تبقي له ما يتيسر لشراء الكتاب من جهة، ولا تبقي له من الوقت ما يسمح بقراءة جادة متأنية.

ما يتبقى لدينا هو القارئ المتورط في فعل القراءة، بوصفها فعلاً ثقافياً حياً.. أي أننا أمام قارئ مثقف يمتلك من الوعي الكثير، وربما أكثر من الكاتب نفسه في كثير من الأحيان. وقارئ كهذا يمتلك تجربة وذائقة ومقدرة على الغوص والتأويل ورؤية ما هو بين السطور. وهو ما يعني أن على الكتابة المقدمة لهذا القارئ أن تحترم قدراته ووعيه وذائقته، وتحترم هامشه الواضح الذي يسمح له بحرية الحركة داخل النص وحوله.

وبهذا المفهوم، تكون بندقية تشيخوف تحذيراً شديد اللهجة لكل من يكتب، من دون أن يدرك أن عليه الكف عن مد يده وإظهارها أمام القارئ.

damra1953@yahoo.com

الأكثر مشاركة