كتابة المكان المقدس
يُحسب للكاتب والقاص المصري يحيى حقي في رائعته «قنديل أم هاشم» قدرته على ادخال البطل الى داخل المسجد، وتحطيم هذا القنديل الذي كان يعتقد الفقراء والبسطاء ان زيته يعتبر دواء لأمراض عدة، ذلك ان هذا الفعل الثوري لبطل هذه القصة يعتبر عربياً من النوادر الكتابية التي تجعل البطل يتحرك في مكان مقدس نسبياً ويقوم بهذه الحركة التنويرية في تحطيم قنديل أم هاشم. وإذا اردنا توسيع الدوائر المائية التي من الممكن ان يحدثها حجر هذه المقالة في قضية الذعر العربي المُزمن في عدم الكتابة الإبداعية عن المكان المقدس واحداثياته الاجتماعية التاريخية والمضارعية فإننا سنحط يدنا على حالة عجز كاملة عند المبدع العربي في هذا المضمار.
وفي استدراج الأمثلة على ذلك نقول إن الاحتفالية العربية بالقدس عاصمة للثقافة العربية التي يحتفل بها عربياً هذا العام، قد كشفت عن قحط كتابي عربي حقيقي تجاه مدينة القدس. وأن عدد الكتابات الروائية عن القدس لم تتجاوز عدد اصابع اليد الواحدة.
إن القدس كمكان اقامة تاريخي للعرب وللكنعانيين عبر عصور كثيرة لم يفرز كتاباً يمتلكون القدرة على التعبير عن التكوينات الاجتماعية المقيمة في القدس. لكن القدس ظلت تشكل للمسلم العربي والمسيحي حالة مكانية مقدسة تتمثل في المسجد الأقصى وقبة الصخرة وكنيسة القيامة، بينما ظل الحراك الاجتماعي حول هذه المعالم المقدسة بمنأى عن الكتابة، لا بل ربما شكل حالة ذعر لكل كاتب حاول أن يرسم طبيعة المكونات الاجتماعية في مكان مقدس لا يحتمل التدنيس بالحبر الإبداعي. مع أن البنية الاجتماعية للشخص المقدسي عبر التاريخ القديم والمعاصر تنطوي على إمكانات كتابية هائلة لو قيض للمبدع العربي ان يتخلى عن ذعره المقدس هذا ويبدأ بالكتابة.
فهناك عائلات مقدسية مجاورة للأماكن المقدسة وحواريها القديمة كانت ميسورة تاريخياً ولها دورها التنويري في العلم والسياسة وقيادة الثورة الفلسطينية مبكراً، ولها ترفها التاريخي في التعامل مع الحياة المقدسية بشكل خاص والعربية بشكل عام. وكان يمكن لأي مبدع عاصر هذه العائلات أن يكتب روايته المميزة عن المكان المقدسي وأناسه. لكن حصر المكان المقدسي في رمزيته المكانية المقدسة قد أبعد المكان المقدسي عن الكتابة جعله كأيقونة مقدسة لا تقبل التجاور الإبداعي.
وما ينطبق على مدينة القدس ينطبق ايضاً على مدينتي مكة والمدينة المنورة، اللتين حُرمتا تاريخياً من الكتابة الروائية والقصصية عنهما، وعن الحراك الاجتماعي المقيم حولهما تاريخياً. فلا يعقل ان تكون مدينة مثل مكة المكرمة استطاعت تاريخياً أن تصهرج العديد من الأجناس العربية وغير العربية عبر تاريخها بحكم مكانتها المقدسة، وأن تصنع المجتمع المكي، والذي يقابله بالكثافة ذاتها المجتمع في المدينة المنورة من دون أن يتمخض عن هذه المجتمعات كتابة تعبر عن ايقاع المكان المقدس، وخصوصية هذا الايقاع في نفوس قاطنيه.
إن الفقر الذي يعاني منه المكان المقدس كتابياً ظاهرة تستحق من نقادنا الالتفات للحفر عن أسباب الذعر التي تقف على تشكيل كل هذا القحط الكتابي عن المكان المقدس.