لغة السرد ولغة الشعر ثانية!
أثارت مقالتي السابقة في هذا الموضوع، حفيظة المخرج السينمائي الزميل قيس الزبيدي. وقد كتب منكراً عليّ التفريق بين لغة السرد (القصة والرواية) ولغة الشعر. وهو رأي أحترمه بالطبع، حيث يبدو منطلقاً من فهم مغاير للغة الكتابة، وتطورها. وهو ما جعله يقرر أن في الإمكان كتابة رواية بلغة الشعر.
وعلى الرغم من التوضيح الذي سقته في مقالتي، والمتعلق بالتفريق بين لغة الشعر واللغة الشاعرية في النص، فإن ذلك لم يشفع للمقالة عند الزميل الزبيدي. وهنا أود أن أذكر الزميل العزيز بما يقال عن اللغة الشاعرية في السينما أيضاً. وهي كما أفهم ليست لغة الشعر نفسها، لأن لغة الشعر كما قلت سابقاً تقوم على الانزياح اللغوي في المقام الرئيس. أي إيراد الكلام في غير معناه المألوف والمتعارف عليه. أما اللغة الشاعرية في السينما مثلاً، فهي تتعين في الحميمية التي تخلقها الصورة عند المتلقي.. أي أن الشاعرية هنا تتكئ على جماليات الصورة ودلالاتها ومدى العمق الذي تقود المشاهد إليه. مع ضرورة الاعتراف هنا بأنني لست خبيراً باللغة السينمائية مثل المخرج العزيز الزبيدي، الذي هو أقدر مني بالطبع على توضيح هذه المسألة. ولكن ما أفهمه منها في الأقل، يجعلني أؤكد مرة أخرى أن اللغة الشاعرية شيء مغاير للغة الشعر، واللغة الشاعرية تعني مناخات شاعرية قائمة على الإيقاع اللغوي والصورة، سواء كانت أدبية أم سينمائية.
أما التأويل والدلالات والإشارات والرموز، التي يمكن أن تتوافر في السرد، فهي شيء مغاير للغة الشعر. فنحن هنا نتحدث عن شخوص ووقائع وحكايات تنطوي على الكثير من الإشارات والعلامات، من دون أن يعني ذلك الاتكاء على الانزياح اللغوي. بل يمكن القول إن مدلولات هذه الإشارات والعلامات قد تختلف من شخص إلى آخر، ومن قراءة إلى أخرى لدى القارئ الواحد، ومن مرحلة زمنية إلى أخرى في قراءات عدة. وهذا ينطبق على الفنون كلها، كالشعر والرواية والسينما والمسرح وما إلى ذلك. وعلى هذا الأساس قامت التفكيكية التي اعتمدت الإرجاء والاختلاف.
أنا أتفق مع الفنان قيس الزبيدي على ضرورة تطوير اللغة، ولكن هذا التطوير لا يعني التسليم بما يسميه البعض تداخل الأجناس. فالجنس الأدبي أو الفني قادر على تطوير نفسه من داخله. وهو ما تشهد عليه نظرة متأنية إلى الفرق بين بدايات الرواية العربية وواقعها الراهن. وهذا لا يعني أبدا التزامنا المطلق بقوانين جامدة أو معايير ثابتة للجنس الأدبي.
وإذا كانت الرواية ابنة الملحمة، والملحمة ابنة الأسطورة، فإن هذا أيضاً ليس قانوناً أزلياً وأبدياً يؤكد أن من الضروري أن يتحول الجنس إلى جنس آخر ليس موجوداً.
لقد نشأ الكثير من العوامل الموضوعية التي أسهمت في اندحار الأسطورة أو تنحيها جانباً لمصلحة الملحمة، تماماً كما نشأت عوامل أخرى أسهمت في تنحية الملحمة وبروز الرواية.
خلاصة القول إن لغة السرد مهما حملت من دلالات، وأياً كانت المناخات والأجواء الشاعرية فيها، إلا أنها تظل مختلفة عن لغة الشعر. أما التأويل فهو العامل المشترك بين الفنون والأجناس الأدبية كلها. ولكن التأويل لا يتكئ على عنصر اللغة فحسب، ولا على شعريتها أو شاعريتها.