إعادة الإنتاج القرائي

خليل قنديل

حينما عقد أحد المؤتمرات الفلسفية العالمية قبل سنوات ونشرت قائمة باسم المشاركين، لاحظنا افتقار القائمة لأي اسم عربي باستثناء بعض الأسماء الأكاديمية العربية التي شاركت في المؤتمر على اعتبار أنها من الأسماء المهتمة بالفكر الفلسفي. وهذا يعني بالطبع أنّ الأمّة التي انتجت للحضارة الإنسانية اسماء حافرة في الفكر الفلسفي العالمي من امثال الكندي وابن رشد وحتى ابن خلدون قد كفت عن الإنجاب وأصابها العقم الفكري.

إنّ هذا الفقر الأكاديمي والفكري والفلسفي المتفشي عربياً له اساسته التي تم الحفر والبناء عليها منذ مطلع القرن الفائت. وإذا كان لابد من استحضار الأمثلة فإن كتاب الدكتور طه حسين والخاص بفكرة الانتحال في الشعر العربي الجاهلي جعلت طه حسين يفقد مقعده التعليمي في جامعة الأزهر، وطالبته بالاعتذار العلني عن كتابه هذا. ولم ينتهِ الأمر الا بإعلان د.طه حسين اعتذاره عن الكتاب وسحب الكتاب من الأسواق.

وعليه فإن العقلية الماضوية والسلفية ظلت تقف بالمرصاد لكل من تسول له نفسه بأن يسعى الى اية مراجعة فكرية تخص تاريخنا الذي «تعلّب» وتحول الى مادة مقدسة يصعب لمسها وتأمل مكنوناتها. وقد استطاعت هذه العقلية ان تمسك بزمام الأمور الى الدرجة التي تكفل كل مفكر عربي بتشييد «مخفره» الرادع في داخله من دون أن تضطر تلك السلطة الى جعله يشاهد هذا «المخفر».

انّ الأدب العربي استطاع من خلال قنواته الإبداعية المتمثلة في الشعر والرواية والقصة والمسرح أن يكسر جدار هذه الماضوية ويعريها ويقضم يدها في اكثر من عمل ابداعي الى الدرجة التي يمكن القول فيها إن لدينا عربياً العديد من الأعمال الإبداعية التي ارتقت الى مستوى العالمية عبر ترجمتها الى اكثر من لغة عالمية. لكننا نكاد لا نحصل على اي خرق فكري عربي لهذه الماضوية الصارمة. كي يقدم مشاركته العربية الفاعلة في المعارف العالمية.

ولعل معظم النتاجات الفكرية العربية التي نقرأها هنا وهناك هي في الأصل منزوعة من جذرها العربي، وهي عبارة عن اعادة انتاج للقراءات الفكرية العالمية بلغة عربية. وعليه فقد صدّق المفكر العربي الذي ذهب مبكراً لدراسة النتاج الفكري العالمي انه يمكن اقناعنا بأن هذا الفكر الذي يتشدق به هو من صناعة عربية. فنحن نعيد تنظيرات الفكر العالمي في علومنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية ولا نمتلك اية خاصية تميز لمستنا العربية على مجمل هذه العلوم. حتى نقدنا الأدبي الذي اسس له الجرجاني والجاحظ في القرن الرابع الهجري ضمر وتآكل واندثر وتحول نقادنا الى طلاب لاهثين خلف النظريات النقدية المتغيرة في الغرب بفعل الحراك الاجتماعي والسياسي الذي يعيشه الغرب. ويقومون بإعادة انتاج قرائي لهذه المعارف والنظريات. ان «الماضوية» السلفية التي تقف ومنذ مطلع القرن الفائت بالمرصاد لأي فكر عربي ناهض قد تحولت في الألفية الثالثة الى فكر ممنهج يمتلك القدرة على الهرس والتكفير. وقد ظلت السلطة العربية السياسية على الرغم من نهجها العلماني الذي قامت على اساسه تستمرئ حضور هذه القوى وتستمرئ هيمنتها وقواها الرادعة لأية نهضة فكرية عربية خالصة. ويبقى المفكر العربي في حالة ذعر حقيقية تجعله وقبل ان ينطق يفكر الف مرة بشكل الكمامة الخانقة التي تلجم نطقه. وهذا بالضبط ما يجعل عواصمنا تعيش كل هذا القحط الفكري وتتبارى بالتورم الاستهلاكي والتشدق بالديمقراطية ومتوالياتها المقززة.

 

khaleilq@yahoo.com

تويتر