كتاب وجوه

منذ بدء الحياة، ومفهوم المسافة يأخذ حيزاً وفيراً من قلق الإنسان وانشغالاته وطريقة تعامله اليومي، وخططه أيضاً. فعندما نريد الذهاب إلى مكتبة عامة يتبادر إلى أذهاننا تلقائياً مفهوم المسافة، وكم تستغرق من الوقت حتى نصل إلى مبتغانا. وكل صباح، عندما نبدأ مسيرة الذهاب إلى العمل، نقدر تلقائياً الزمن الذي تقضمه المسافة للوصول إلى مواقع أعمالنا، وكذلك الأمر عند زيارة صديق أو الذهاب إلى البحر أو الغابة. كأن المسافات آكلة وقت، تقتات على أرغفة الزمان، ونحن نتصور الطريق والوقت معاً. قديماً، كانت المسافات تقاس بمسيرة أيام عبر قافلة جمال، والآن، أصبحت تقاس بدقائق أو ساعات عبر طائرة أو سيارة أو قطار أو سفينة. وحتى الآن، لايزال بعض الأوصاف المتعلقة بالمسافة والزمان حياً بيننا، حين نمشي ونقيس المسافات الداخلية، أي داخل الحي أو الحارة أو القرية، مشياً أو على ظهر دراجة أو حصان. هذا ما يتعلق بالمسافة الجغرافية، إذ إن هناك مسافات أخرى، نفسية واجتماعية وثقافية وحضارية وغيرها. وهناك أيضاً مسافة حيوية تشكل حيز الكائن. الآن، تغيرت مفاهيم عدة في حياتنا، منها مفهوم المسافة، ولعل الأمر مرتبط بمدى التطور في المجتمع الإنساني، فمع ظهور اختراعات وتقنيات جديدة، حدثت موجات انقلاب في مفاهيم كانت لقرون، ربما، مكرسة. تبدأ رحلة التغير بفكرة، ربما تبدو صغيرة، لكنها سرعان ما تنتشر، وتصبح طريقة أو اداة لتغيير.

فمن المشي، ثم استخدام الخيول والجمال والحمير، إلى العربة ذات العجلات، والتي تجرها دابة، إلى القارب ذي المجاديف، إلى القطار والسيارة والطائرة وسفينة الفضاء، إلى البريد والهاتف الثابت والمتحرك وملحقاتهما، ثم الكمبيوتر والإنترنت، لم يتوقف سؤال المسافة، ولم يتوقف شغف الإنسان في البحث عن إجابة ضيقة، تتسع مع مرور السنوات. وإذا كانت الرافعة امتداداً ليد الإنسان، والعجلة رديفاً لقدميه، والهاتف امتداداً لحنجرته، فإن الإنترنت تبدو امتداداً لتفكير الإنسان، كما لو أنها امتداد لفكرة التخاطر «تليبيثي»، ففي رمشة عين، يجري تواصل بين أناس في القارات كلها، إذ إن مسافة الاتصال تكاد تكون ممحوة، على الرغم من المسافات الجغرافية.

ومع أن هذه التقنيات، تصاحبها أعراض جانبية، إلا أنها لن تتوقف عن التطور أيضاً. وكما يقال، ثمة ضرائب غير مادية، يدفعها البشر في كل مراحل التطور، وخصوصاً التقني. ومن بين الأعراض التي تصاحب استخدام التقنية، تلاشي مفهوم الجيرة التقليدي، وظهور «جيران إلكترونيين» قد يتواصلون عبر برامج الدردشة يومياً، وبأسماء حقيقية أو حركية، لكنهم ربما لا يلقون تحية الصباح على بعضهم إن تصادفوا عند مصعد بناية أو بائع كعك، لأنهم لا يعرفون ملامح بعضهم بعضاً.

أما عن الجوانب الإيجابية للتقنيات، فإنها وفّرت «زوادة» وقت للإنسان، بحيث يتمكن، إن أراد، تحقيق إنجازات في مجالات عدة. وفي الوقت ذاته، لا تحرمه المسافات البعيدة من سماع صوت أمه أو حبيبته، حتى وإن كان كل طرف في قارة. كما أن الإنترنت جعلت من السهولة تواصل الناس ومناقشة أفكار خلاقة، وقد لفتت انتباهي مبادرة «كتابي كتابك» التي طرحها شباب عبر موقع التواصل «فيس بوك» الذي يُعد دفتراً عالمياً للأحوال، أو كتاب وجوه، يدعون في مبادرتهم إلى إنشاء مكتبات للأطفال في فلسطين والمخيمات الممتدة على قارعة الوطن العربي. هذه المبادرة، مثلاً، ما كان لها أن تحقق انتشاراً ونجاحاً ومشاركة واسعة، لو كنا لانزال نقيس المسافات بمسيرة أيام أو شهور، في حال القافلة التقليدية، لكنها سرعان ما لاقت استجابة سريعة في عدد من البلدان العربية، إذ إن «القافلة الإلكترونية» تصل مع كبسة زر.

ali.alameri@emaratalyoum.com

الأكثر مشاركة