الهولندي الطائر

يُعد روبرت فلاهرتي أسطورة في تاريخ السينما التسجيلية، إلا أن هناك أسطورة أخرى، هي أسطورة الهولندي الطائر: يوري إيفنز. توقف فلاهرتي في أفلامه عند مواجهة الطبيعة في بقاع نائية، كان الناس يناضلون فيها من أجل لقمة العيش، أما «الهولندي الطائر» فقد واجه المجتمع، وناصر حرية الناس ودافع عنهم بسلاح الكاميرا، وأصبح مواطناً عالمياً، أتقن لغات عديدة وصوراً في أغلب بقاع الأرض:

يجب كتابة قصيدة
عن طير لا يملك سوى جناحين وقصيدة أيضا
عن طائر هولندي لا يكف عن الطيران
قصيدة
عن طائر لا يعرف أحد أين يحط:
أفي آسيا أو في أمريكا
أفي روما أو في موسكو
أفي سانتياغو أو في باريس؟

هذه القصيدة كتبها الشاعر الروسي يفتيشنكو، حينما قاده الطريق والتقى في كوبا بإيفنز. البرازيلي كافالكانتي أعلن: «لم يعد المعلم فلاهرتي بيننا، وبقوة شخصيته ارتقى أخيراً صانع أفلام تسجيلية إلى مستوى أربعة كبار في السينما: شابلن وغرفث وإيزنشتين وشتروهايم».

من يصبح بعد فلاهرتي مايسترو الفيلم التسجيلي؟
إنه، دون شك، يوري إيفنز.

في «الأرض الإسبانية»، سجل إيفنز للعالم شهادة إنسانية عن مآسي الحرب الأهلية في إسبانيا في أواخر الثلاثينات، وقتها، كان همنغواي مراسلا في إسبانيا وشارك يوري إيفنز في الفيلم، وكتب تعليقه «كان الموت يجيء في الأمس، حينما يكون المرء مريضا أو طاعناً في السن، ويجيء الموت اليوم، براقاً كالفضة، إلى جميع ناس هذه القرية، الذين، عبثا، يهربون منه إلى لا مكان!».

يكتب صاحب رواية «لمن تقرع الأجراس»: عملنا معا في فيلم «الأرض الإسبانية»، وحينما أتذكر كيف صُور الفيلم، أتذكر كيف امتلأ كل جزء منه بالعرق وبالعطش، وبالرمل أيضاً. كل ذلك نرى قليلاً منه في الفيلم، إيفنز ليس مخرجا موهوبا فقط، إنه شاعر أيضا. والنتيجة: تاريخ كُتب بأسلوب لم يره أحد من قبل.

«الأرض الإسبانية» هو تاريخ للناس على هذه الأرض، وفي هذا الزمن، لأنه تاريخ صور ما كنا نراه بأمانة، ووثق ما رأيناه بأمانة، فيلم غير مريح، وبرهان على أن الفن يمكن أن يصير فيلماً، وفي الوقت نفسه يكون حقيقياً، حينما قلده جورج أمادو جائزة السلام العالمي في هلسنكي في ،1955 قال: من دواعي سروري أن يتسنى لي تقليدك أيها العزيز إيفنز وسام السلام، فحينما تم اختياري لأمنحك هذه الجائزة، اعتقد رئيس لجنة التحكيم أن يسلمك إياها إنسان ينتمي إلى شعب مضطهد، يناضل ببسالة وصمود من أجل حريته، لأنها تتوج عملك ويمنحك إياها ممثلو شعوب الأرض.

في جملة مقتضبة يعرف المخرج الروسي الكبير يوتكوفيتش أفلام إيفنز: إنها حصيلة تركيب فني من ما هو شعري ووجداني والتزام اجتماعي.

يكتب إيفنز «كفنان، يعنيني أن أصور التفاح لكي يبدو جميلاً وشهياً، وفي صورة مُكونة كما تظهر في لوحة لسيزان، هل هذا يكفي؟ لا . أريد أن أريها مستعملة، وأن الناس من زرعها وأثمرها، وأن الفاكهة والخضرة ضرورية لحاجة الناس اليومية، وإنها أصبحت سلعة، وأنا لم يعد يمكنني أن أرسمها كما رسمها سيزان».

alzubaidi0@gmail.com

الأكثر مشاركة