نقص الأرض من أطرافها
جاء في الأثر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، في تأويل قول الله تعالى:
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا) قال: خرابها بموت فقهائها وعلمائها وأهل الخير منها. وكذا قال مجاهد أيضا: هو موت العلماء.
أي أن نقصانها ليس بصغر مساحتها، فهي لاتزال كما خلقها الله تعالى، وإن تعرضت لعوامل التعرية والهزات والتغييرات المناخية والجيولوجية، فهي مع ذلك، تبقى حتى تبُس بساً، فتكون هباءً مُنبثا، فذلك اليوم الموعود الذي سيأتي على الدنيا بمن فيها بالفناء، و الآية تتحدث عن واقع ملموس، تخاطب العقول الذين يرون ويعتبرون ويتعظون، فما ذلك الذي يرونه من نقصانها؟
إنه موت الخيرين من الفقهاء والعلماء والصلحاء الذين تحيا بهم البلاد والعباد، كما قال بعضهم: الأرض تحيا إذا ما عاش عالِمُها.. متى يمتْ عالم منها يمتْ طرف.. كالأرض تحيا إذا ما الغيث حل بها.. وإن أبى عاد في أكنافها التلف
إذ ليست الحياة بأن تأكل وتتلذذ بالطيبات، بل الحياة هي حياة القلوب بالعلوم والمعارف، وأجلها معرفة الله تعالى، ومعرفة شرعه الذي تعبدنا به، فحياة بغير هذه المعارف هي موت حقيقي؛ لأنه لا أثر لها في نفع الناس أو نفع المرء نفسه، كما قال الشاعر: قد مات قوم وما ماتت مكارمهم .. وعاش قوم وهم في الناس أموات وقال آخر: ليس من مات فاستراح بميْتٍ .. إنما الميْت ميت الأحياء . وذلك النقص الذي شاهدناه هذا الأسبوع بوفاة الشيخ أحمد بن عبدالله بن ظبوي مربي الأجيال، ومعلم الناس الخير؛ الشيخ الصالح القانت الزاهد العابد، المفعم بمكارم الأخلاق وخصال الخير، الذي ظل محباً للعلم وأهله إلى آخر أيامه، وكأنه لا يعرف صديقاً سواه، فكم نقصت الأرض بموته؟ لقد نقصت بغياب من تذكر بالله تعالى رؤيته وهو يهادى بين رجلين إلى المسجد، ليصلي الفرض والنفل، وهو يصوم النهار على ما هو عليه من الكبر، وهو يتحسس أحوال الفقراء ممن يقصدونه من هنا أو هناك، وهو يباحث العلماء، ويسمع لهم، ويجيب المستفتين، ويطالع الكتب، إلى أن منعه الكبر، ذلك هو الشيخ أحمد بن ظبوي الذي تربى على أيدي العلماء والفضلاء وأخصهم شيخنا الشيخ محمد نور سيف المهيري،رائد النهضة العلمية في دبي والحجاز، الذي لازمه في دبي أولاً، ومكة ثانياً، وخلفه في مدرسته ثالثاً، وقد كان يحدثني عن ذكرياته بمكة، في فلاحها التي نهل من معينها، وملازمته مشايخها، أمثال السيد علوي المالكي والشيخ العربي التباني، في أروقة الحرم المكي. لقد مات الشيخ أحمد سابع أيام عيد الفطر، بعد أن كان عيدنا بهيجا بزيارته و معايدته، وكأن نظراته إلي، وأنا أقبل يده الطاهرة، كانت توحي بأن هذه آخر معايدة في عالم الدنيا، لكنه في الحقيقة لم يمت كما يموت الناس، فقد ترك الكثير من المآثر التي تخلد ذكراه، وتجعله حيا في وجدان تلاميذه ومحبيه، فله لسان صدق عندهم، يذكرونه أولاً بالدعاء، وثانياً بالثناء، وثالثاً أن عزاءهم فيه ذلك النجل الصالح لعابد عبدالرحمن الذي هو سر أبيه.
فرحم الله الشيخ أحمد بن ظبوي، ورفع درجته في عليين، وألحقنا به في الصالحين.
❊ كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي