يوسا.. أيّها السارد العظيم
إنه زمن الرواية بالفعل، ولكن، ليس زمن تلك الرواية التي يعتقد صاحبها أنه كلما امتلك قصة سردية طويلة تستحق أن تحمل مسمى رواية. ولا هذا الكمّ الهائل من الروايات العربية التي أنهكت المطابع بسرديتها الساذجة. بل إنها الرواية القادرة على ارتياد الآماد الإنسانية الجديدة بما يشبه الفتح والاكتشاف لقارة جديدة تسمى باسمه، وتحمل وقع حبره وتوقيعه.
وفي روايته «شيطنات الطفلة الخبيثة»، الصادرة عن دار المدى وترجمة صالح علماني، يؤكد الكاتب البيروني ماريو فارغاس يوسا أنه علامة فارقة في المنجز الروائي العالمي، وأن كتاباته الروائية تعمل على تسييد كتابة الفن الروائي، كفعل إبداعي يمتلك القدرة الكاشفة على مجمل الحركة الإنسانية وأدق تفاصيلها، وإبرازها بفلسفة عميقة المحتوى، تقود القارئ إلى ما يشبه السرنمة القرائية التي تجعله مأخوذاً بهذه القدرة على النسج الحكائي والسردي. فالفتى ريكاردو الذي يقيم في مدينة ميرافلوريس تدهشه الفتاة البيرونية التي حضرت إلى حيّهم، مدعية أنها تشيلية لتكتشف عمته أنها ليست تشيلية وأنها كاذبة، ما يجعل الفتاة تختفي. ومن هنا، تبدأ الرواية التي تكشف عن رغبة الفتى في الذهاب إلى باريس، وامتهان الترجمة، وعن جنونه بالفتاة الطيبة والخبيثة والشيطانة التي يلتقيها ناوية العمل الكفاحي في كوبا، كي تتدرب وتعود إلى وطنها.
وكان يمكن لحكاية بسيطة مثل هذه أن تنتهي عند حدود هذه الرغبات عند بطل الرواية، لكن قلم فارغاس يوسا الحافر يذهب للحفر في أعماق الطفلة، وتقلباتها السايكولوجية العجيبة التي تجعلها تحوله إلى محطة غرامية متميزة في حياتها، تنطلق منها إلى خيانات مع رجال آخرين تتزوجهم وتعيش معهم، ومن ثم، تنقلب عليهم، وتعود إليه وهي واثقة بأنه الرجل الوحيد في العالم الذي يحبها بجنون نادر. والغريب أن يوسا بسرده العظيم في هذه الرواية يمتلك القدرة الوصفية على جعل القارئ يقع في الغباء العشقي، والغرامي نفسه الذي يقع فيه البطل، إلى درجة أن القارئ يظل يغفر لريكاردو الذي وصل جنونه الغرامي بهذه الطفلة الخبيثة إلى التفكير في الانتحار في نهر السين، لكنه يعود إلى حبها والهيام بها، وهي الخائنة والشيطانة معاً، وهي من استطاعت تدمير حياته.
وتذهب عظمة السرد الروائي عند يوسا في روايته هذه إلى الإضاءة الجغرافية على جسد محبوبته، بكل تفاصيله المثيرة والشبقة، في كل لحظة يلتقيها، لتتحول إلى امرأة شيطانة بالفعل، ولكنها شيطنة لا تخلو من البراءة الغامضة. ويمكن القول إن رواية يوسا عن شيطنة الطفلة الخبيثة مكانية بامتياز، تكشف عن السراديب الحياتية الخفية لمدينة باريس، إضافة إلى مدن أخرى، مثل طوكيو وتلافيفها الشرقية المتوارية والإسكندرية وحي لافيس في مدريد الإسبانية، وهو في كل هذه الجولات المكانية، يجتث المكنون والمخبأ في هذه المدن. تتحول العلاقة بين رجل وامرأة في رواية يوسا إلى شقاء حفري، يتواصل في حدين: الأول حد الجسد والروح، والثاني الأمكنة والمدن التي تعيش فيها هذه العلاقة، إلى الدرجة التي يجعلك فيها ترافقه كطفل إلى كل ما يمكن أن يقوله عن هاتين العلاقتين، وتزاوجهما الذي لا يمتلك قوة سردها إلا كاتب يملك مكنة السرد التي تقوده إلى أماكن جديدة وفتوحات جديدة. فسلام عليك يا ماريو فارغاس يوسا أيها السارد العظيم.