من محاسن الأزمة المالية
في شهر رمضان الكريم، كنا في بيت أحد أعيان دبي ووجهائها الكبار، إنه الأستاذ الفاضل ضاحي خلفان تميم، ولا أقول الآن الفريق، أو قائد الشرطة، فلسعادته من الألقاب الكريمة ما تجعل المتحدث يختار ما يناسب مقاله، وكان حديث ذلك المجلس عن محاسن الأزمة المالية، ولم يَرُق لسعادته وجه الحسن فيها، وقد تحدث المتحدث عن بعض ما يراه من وجوه الحسن لهذه الأزمة المريرة التي اكتوى بنارها سائر الناس، ممن لا ناقة لهم فيها ولا جمل، فيصدق عليهم قول ربيعة المهلهل في أمثاله السائرة «لم أكن من جناتها شهد الله وإنني بحربها اليوم صال، وقد أعطاني رب الدار الفسيح، والكلام الفصيح، والوجه الصبيح؛ الفرصة لأتحدث في الموضوع، فتكلمت قليلاً، فلم يشف عليلي، ولا روى غليلي، وبقيت في نفس يعقوب حاجة لمـا يقضِها منذ ذلك اليوم، إذْ لم تتح لي الفرصة إلا في هذه المقالة التي تأجلت مراراً تقديماً للأهم على المهم، مما هو أنسب للزمان: إنه ما من محنة إلا وفي طيها منحة كما هي سنة الدهر المطردة، ومنحة الأزمة المالية: أنها كشفت عن عَور النظام الاقتصادي الربوي، وبينت أنه يعيش على شفا جرف هارٍ، يمكن أن ينهار، في أي لحظة من ليل أو نهار؛ لأنه قائم على نظريات وأوهام تتمثل في بيوع المؤشرات والاختيارات وبيوع الهامش والديون والربا المضاعف، ونحو ذلك، لا على واقع اقتصادي صلب يمثل حقيقة المال الموجود، أو الاستثمار المقصود. إنه مما لا يخفى على أحد أن الأزمة المالية لم تكن لتحدث لو أن تلك البيوعات كانت مضبوطة بما يمثل غطاءها من عقار حقيقي أو أرصدة موجودة، لكنها لما كانت بعيدة عن ذلك، وكان بمقدور المرء أن يشتري بما لا يملك، ويبيع ما لا يملك كذلك، ولعله يكون ثروة من غير جهد ولا مال، بمثل هذا الاحتيال، وحينما حصحص الحق، تكشفت الأمور عن واقع مرير، فالمبيعات لا توازي الأثمان، والضمانات ليس لها أرصدة تغطي، والديون التي بيعت كانت سراباً بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً.. وكل هذا يتنافى مع شرع الله القويم الذي شرعه لعباده ليتعايشوا به على هدى من الله وبرهان؛ لئلا يبغي بعضهم على بعض، أو يأكل أحدهم مال أخيه الإنسان بالباطل، فذلك حرام وسحت فقد قال الله تعالى: {يَا أَيهَا الذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} والتجارة هي التي تتكون من أثمان وأعيان، وتمثل العدل والإنصاف بين الأنام، وهذا ما لم يبال به النظام الربوي السائد، القائم على الانتهازية، فلما وقعت الواقعة انكشف البهرج وظهر الزيف، وعلم الناس عدم صلاحية هذا النظام الربوي للبشر، وأنه لابد لهم من نظام حكيم يحمي مصالحهم ويحفظ مقدراتهم، وذلك هو النظام الإسلامي الذي تنادى به من كان يحاربه إيديولوجياً من دول ومنظمات ومؤسسات مصرفية، لمِا عرفوا من الحق، وهذا لعمرو الله ما كان لِيُعرف لولا هذه الأزمة المشؤومة، «ومازال فضل الضد يعرف بالضد». وفي الأثر: «من لم يعرف الجاهلية لا يعرف الإسلام»، فهذه هي الإيجابية الوحيدة للأزمة المالية، التي ينبغي أن يستفاد منها في عالم المال والاقتصاد؛ لكي لا يستمر المنهج العتيق البين البطلان لدى بني الإنسان، فتعود كرة الأزمة، والمؤمن لا يلدغ من جُحر مرتين، والسعيد من وعظ بغيره.
❊ كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي