الحرب والإبداع

خليل قنديل

تحتاج الكتابة الانقلابية الفاعلة في الوجدان القرائي الجمعي إلى ما يُشبه الكارثة التي تكون قادرة على حرق اليابس والأخضر، كي تنهض الكتابة من قيلولتها الحبرية، ذلك أن الواقع البلاستيكي البارد يولد كتابة ساكنة فاقدة للتوهج وبعث الحياة، بينما يظل الواقع المتفجر هو الواقع الأكيد في قدرته على إفراز الكتابة النجيبة التي تزلزل يقين القارئ، وتمنحه عيناً جديدة للمشاهدة، وإعادة تشكيل الحياة. ولولا الحربين العالميتين، الأولى والثانية، وفعل الدمار الاجتماعي الذي فعلته مثل هذه الحروب، لظل المواطن الغربي يرتع في سكونية المشهد الرومانسي الذي خلفه ربيع القرون أجمع، القرن الـ،19 لكن الحرب التي جرحت المشهد اليومي للحياة بالدمار والقتل وشلالات الدم هي التي قذفت بالمبدع نحو حافة الكون، وزلزلت يقينه وجعلته يحـدق بمصيره بتلك الوحشة الكونية التي تجسدت بالمدارس الفلسفية التي خلفتها تلك الحروب، وبالحداثة التي أوقفت العالم أجمع على عتبة الأسئلة.

والحروب العالمية عندما حدثت، وصار القتل عادة يومية، والغارات التي تدمر البيوت والبنى التحتية تبدو وكأنها لعبة يومية، هذه الحروب هزت اليقين الإنساني من جذوره، وجعلته يحدق في روحه، كي يلقي عليها الأسئلة الموجعة عن الإنسان ومصيره الكوني والاجتماعي. والحروب وحدها من جعلتنا نصدق عدمية سارتر ووجوديته التي تحولت في ستينات القرن الفائت إلى موضة ثقافية. وهي التي جعلتنا نصدق نبوءة إليوت في «الأرض الخراب»، مثلما جعلتنا نؤمن بالعبث واللامعقول الذي قدمه صموئيل بيكت في رائعته «في انتظار جودو». والحروب ذاتها هي التي ولدت السوريالية والحداثة وما بعديات الحداثة. إن الواقع الذي زلزلته الحروب في الغرب طوال القرن الفائت هو الواقع الروحي ذاته الذي زلزلته هذه الحروب في الأعماق الساكنة للمبدع، وثورت كتابته وجعلته يحدق بعين جديدة في الواقع.

وفي مقابل كل هذا، إذا أمسكنا بتلابيب الواقع العربي المعاصر، وحاولنا البحث عن الندب والحفر الحربية في هذا الواقع، فلن نجد حرباً حقيقية زلزلت سكونية هذا الواقع، وأنهضت كتابته. وعلى الرغم من الضجة الحربية التي افتعلتها الدولة العربية المعاصرة، سنجد أن المدينة العربية ظلت طوال القرن الفائت في منأى حقيقي عن الدمار والقتل اليومي الذي يمكن له أن يُحـدث الزلزال الكتابي. وأن الحروب العربية ظلت عبارة عن ضجـة تحـدث في المذياع، ولا تغادر مبنى الإذاعة والتقارير السياسية والإنشائية.

لكن، هناك استثناءات استطاعت أن تضع المواطن العربي أمام مصيره، فالحرب الأهلية اللبنانية يمكن اعتبارها من الحروب التي استطاعت أن تزلزل بيروت وسكانها، وكتابها أيضاً، وأن تترك بصمتها الواعية على الكتابة العربية في أكثر من مجال. لكن الأهم من ذلك كله هي الحرب العراقية واحتلال بغداد وبقية التداعيات التدميرية التي انعكست على المثقف العراقي، وحالة النفي القسري التي تعرض لها المثقف والمبدع العراقي جرّاء هذه الحرب وتشتته في المنافي.

وعليه، يمكن التنبؤ بقيامة إبداعية عربية، يقودها المبدع العراقي في كتابات بدأت تختمر وتشكل بما يُفيد الأدب العراقي بشكل خاص، والأدب العربي عموماً.

هي الحرب إذن، من تهز يقيننا الكاذب، وهي وحدها من تستطيع أن تقودنا إلى قدرنا الكتابي البهي والموجع معاً.

 

khaleilq@yahoo.com

 

تويتر