الحلم سيد الأخلاق
الأخلاق العظيمة عنوان العظماء، وسجية الأتقياء، ومنهج الأصفياء، والحلم سيد الأخلاق، لا يتحلى به أحد إلا عظم قدره، ونبل أمره، وكان بين قومه كالشامة، وعلى عشيرته علامة، وقد روي أن جبريل عليه السلام لما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم بقوله سبحانه وتعالى: { خذ العفو وأمر بالعُرف وأعرض عن الجاهلين}، قال له:
يا محمد، إني أتيتك بمكارم الأخلاق في الدنيا والآخرة.
وروى الطبري عن سفيان بن عيينة مرسلاً، أن «النبي صلى الله عليه وسلم حين نزلت هذه الآية قال: يا جبريل ما هذا؟ قال: لا أدري حتى أسأل العالم، ثم عاد جبريل، وقال: يا محمد، إن ربك يأمرك أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك». وهذا هو الحلم الذي يتفاخر به الفضلاء، ويتمدح به النبلاء، فإنه كظم الغيظ عند هيجان الغضب، وعفو عن الناس وصفح جميل، فمن كان كذلك فقد ساد العباد، وغنم يوم التناد، لا جرم فقد قالوا:
بعلم وحلم ساد في قومه الفتى وكونك إياه عليك يسير
وقال علي رضي الله عنه: أول عوض الحليم عن حلمه أن الناس أنصاره. وقد قيل: من غرس شجرة الحلم اجتنى ثمرة السلم. ولا ريب فإنك إذا سالمت سلمت، وإذا خاصمت خُصمت، وإن فتشت عن عيوب الناس وجدوا فيك أضعاف ما وجدته فيهم، والخلاص من ذلك أن تعفو عمن ظلمك، ولا تجعل للشيطان عليك سبيلاً بحب التشفي والانتقام، فإنه لذة ساعة يعقبه ندم دائم، وحزن لائم، ولذلك قيل: ما ذبّ عن الأعراض كالصفح والإعراض، وفي هذا يقول بعض الأدباء:
أحب مكارم الأخلاق جهدي وأكره أن أعيب وأن أعابا
وأصفح عن سباب الناس حلماً وشر الناس من يهوى السبابا
ومن هاب الرجال تهيبوه ومن حقر الرجال فلن يهابا
وقد روي أن أبا الدرداء رضي الله عنه قال لرجل أسمعه كلاماً بذيئاً: يا هذا، لا تغرقن في سبنا ، ودع للصلح موضعاً ، فإنا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله عز وجل فيه. وشتم رجل الشعبي فقال: إن كنت كما قلت فغفر الله لي، وإن لم أكن كما قلت فغفر الله لك. واغتاظت عائشة رضي الله عنها على خادم لها ثم رجعت إلى نفسها فقالت: لله در التقوى ما تركت لذي غيظ شفاء.
فهذه نماذج من حلم أولي الأحلام والنهى الذين حلموا عن غيرهم بمثل هذا الصفح الجميل، والكرم النبيل، فنالوا محمدة الدنيا، ولهم عند الله تعالى أجر جزيل، فقد وعدهم ه محبته وأوسع لهم جنته كما قال سبحانه{ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ الناسِ وَاللهُ يُحِب الْمُحْسِنِينَ}، وقد ذكر المفسرون عن السلف شيئاً من حالهم مع هذه الآية من ذلك ما رووه عن ميمون بن مهران، أن جاريته جاءت ذات يوم بصحفة فيها مرقة حارة، وعنده أضياف، فعثرت فصبت المرقة عليه، فأراد ميمون أن يضربها فقالت: والكاظمين الغيظ، قال لها: قد فعلتُ، فقالت: والعافين عن الناس، فقال: قد عفوتُ عنك، فقالت الجارية: والله يحب المحسنين، قال ميمون: قد أحسنت إليك فأنت حرة لوجه الله تعالى. وروي عن الأحنف بن قيس مثله. وهكذا يكون الحلم والعفو عند المقدرة الذي يرقي صاحبه لمحبة الله تعالى. نسأل الله تعالى أن نكون منهم.
❊كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي