التجاور العمري للإبداع
تبدو الثقافة والإبداع عموماً كأنهما يختاران موقعهما الخصب في الحقب الزمنية وفي القرون وفي التاريخ تحديداً. وكثيرة هي الحقب الزمنية التي اتخمت تاريخياً بالقامات الإبداعية التي اغنتها وميّزتها ورسمت علامتها الفارقة فيها. ويبدو مطلع قرننا النيء الذي نعيش وكأنه يعاني فراغاً في القامات الإبداعية التي يمكن أن تشكل علامة حقيقية في تراث الإبداع الإنساني. لا بل يبدو وكأنه يعاني كساحاً في هذا الجانب.
فعلى صعيد الساحات الثقافية الغربية، تبدو القامات الثقافية والابداعية الفاعلة والمؤثرة مختفية وغير معلنة. وفي الساحة الثقافية العربية ايضاً نلحظ اختفاء للقامات ذات الهمة الثقافية العالية والمؤثرة. إنك حين تحدق بالتاريخ الإبداعي للقرن الفائت لابد وانك ستدهش من تزاحم قامات إبداعية عملاقة حدثت ولادتها وموتها في قرن واحد. وإن هذا التزاحم في الحضور قد أدى إلى عافية خاصة تحلى بها الإبداع عموماً. عافية انعكست ثمارها على كافة مناحي الفن وقنواته الإبداعية من شعر ورواية وقصة قصير وتشكيل.
ففي الساحة الثقافية الغربية يدهشك هذا التجاور بين سارتر وكامي وسيمون دبوفوار في مجلة الأزمنة الحديثة، مثلما يدهشك أيضاً تلك العلاقة الحميمة بين «ادغار الن بو» و«بودلير» إلى درجة جعلت الأخير يقوم بترجمة كتابات بو إلى الفرنسية وتعميم موهبته في الساحة الثقافية الباريسية.
وفي الإطار ذاته يمكن التحدث عن علاقة «اننانيس ينن» والحنو الذي كانت تحيط به الكاتب العبقري والصعلوك «ميلر» وتلك العناية التي كان كاتباً كبيراً مثل «لورانس داريل» يوليها لـ«ميلر». وتلك العلاقة الغرائبية بين الشاعرين رامبو وفرلين إلى درجة أن الأخير أطلق النار على رامبو حينما تأكد أنه سيهجره إلى غير رجعة. والحديث ذاته ينطبق على الحميمية العجيبة في العلاقة بين الفنان جوجان وفان كوخ. ومن يقرأ كتاب مذكرات الشاعر الإسباني البرتو ريكو «الغابة الضائعة» لابد وأن يحسد هذا الشاعر على علاقات حميمة مع نيرودا وسلفادور دالي وبيكاسو ولوركا وجميع الشعراء الماركسيين في العالم الذين واكبوا تجربته الشعرية وعايشهم وعايش إبداعاتهم بحميمية فريدة.
وفي ما يخص الساحة الثقافية في القرن الفائت يمكن ملاحظة ازدحام قامات إبداعية في حقب عمرية متجاورة نسبياً كان لها الأثر العظيم والريادي بسبب هذا التجاور. ومن يرصد تجربة مجلة شعر ورودها سيلحظ تجاور لعمالقة من كتاب القصيدة الشعرية العربية مثل يوسف الخال وخليل حاوي وانسي الحاج وبدر شاكر السياب وفدوى طوقان.
وفي السياق ذاته، لابد وأن يلاحظ التجاور العمري الإبداعي لقامات مثل محمود درويش وتوفيق زياد وسميح القاسم وعبدالوهاب البياتي ونزارقباني. وفي السياق ذاته، يمكن ملاحظة الحضور الروائي المتجاور لكتاب مثل نجيب محفوظ وحنا مينة ويوسف إدريس وزكريا تامر وجمال الغيطاني ويوسف السباعي واحسلن عبد القدوس.
إنّ هذا التكثيف في الحضور الإبداعي الخصب والعميق في قرن واحد يؤكد أن بعض الشعوب، وفي قرن معين، تكون محظوظة فعلاً حينما يتخلق في زمنها كل هذا الكم الهائل من المبدعين المتجاورين في الإبداع.