الابتلاء سنّة الله في خلقه

ورد في الحديث «يبتلى العبد على حسب دينه، فإن كان في دينه صلباً، اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة، ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد، حتى يتركه يمشي على الأرض، وما عليه من خطيئة»، فدل الحديث أنه لابد للمرء من ابتلاء، إلا أنه يختلف باختلاف العباد صلابة ورقة، ذلك أن هذه الحياة ليس فيها راحة لمؤمن، فكل ما فيها ابتلاء بالخير أو الشر، كما قال سبحانه {وَنَبْلُوكُمْ بِالشر وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} ومعنى الابتلاء: الاختبار، أي أن الله تعالى يختبر عباده كما يُختبر معدنا الذهب والفضة، ليعلم من عبده، وهو العليم الخبير، مدى صلابته في دينه، ومدى احتسابه ما أصابه عند الله، ومدى رضاه عن ربه، ومدى توكله عليه، ومدى ذكره له.. كل ذلك ليقيم عليه الجزاء العدل أو يمنحه الفضل.

وأولو الألباب يعلمون أنهم لن يغيروا من مجريات الأقدار، ولن يوقفوا تعاقب الليل والنهار، بل كل ذلك عند الله تعالى بمقدار، فلا بد للمرء أن يذوق من هذه الحياة ما جبلت عليه، من النكد والعناء، والصحة والهناء، كما يروى عن الشافعي رحمه الله تعالى من عيون أدبه، قوله:

ثمانية تجري على سائر الورى ولابد للمرء أن يذوق الثمانية
فعسر ويسر واجتماع وفرقة وأمن وخوف ثم سقم وعافية
والعاقل من استطاع أن يوظف هذه الأحوال كلها في ما يرضي ربه، لتكون عنوان نجاحه في الابتلاء.

وإذا كانت الحياة بحد ذاتها ابتلاءً، فما على العبد إلا أن يري الله من نفسه خيراً، ليعمل على النجاح بامتياز، وإلا عد من الفاشلين، فقد قال سبحانه {وَهُوَ الذِي خَلَقَ السمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتةِ أَيامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} فدلّت لام التعليل على أن الحياة بمكوناتها وأجرامها العلوية والسفلية وكواكبها السيارة، إنما خلقت ليبتلي الله تعالى بها عباده، ليظهر مدى عبوديتهم له سبحانه، ونحو هذه الآية في أول سورة «الملك»، وكلها دلائل على أن الله تعالى يريد من عباده بمختلف أجناسهم وطبقاتهم وأنواعهم، ومختلف أحوالهم يسراً وعسراً، وصحة ومرضاً، وأمناً وخوفاً، واجتماعاً وافتراقاً، أن يبرهنوا في كل هذه الأحوال على صدق العبودية له بحسن العمل، وحسن الإرادة لوجهه، واتباع شرعه ونهجه، والعاقل هو الذي يعرف كيف ينجح في الابتلاء، ويتبرأ من حوله وقوته إلى حول الله وقوته وطوله، فإن أمره امتثل، وإن نهاه كف، وإن أعطاه شكر، وإن منعه عف وكف، وإن مرض صبر، وإن صح جعل صحته في مرضاة ربه. وهكذا حتى يجتاز دار الابتلاء ويصل إلى دار الرضا والرضوان، فيجد رباً غير غضبان، ونعيماً من غير نقصان، كل ذلك لأنه صبر على دنياه وجعل مرضاة ربه مبتغاه، ودينه لحمة ثوبه وسداه، لا يفرط فيه اغتراراً بالصحة، ولا زهواً بالمال، ولا تبختراً بالشباب والجمال، ولا انسياباً مع زهرة الحياة الدنيا، لأن كل ذلك إلى زوال، و إلى الله المرجع والمآل.


❊كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي

الأكثر مشاركة