سينما القسوة

قيس الزبيدي

«لا يمكن تقييم بعض الأعمال وفقا لسياق تطور السينما، لأنها تظهر بين حين وآخر، خارج أي مرجعية تاريخية، مثل لؤلؤة داخل محارة، ذات بريق لا مثيل له».

بحث الناقد العظيم أندريه بازان عن هذه اللآليء، ليخرج منها بنظريته: «الفن الواقعي يخلق جمالية لا تنفصل عن الواقع»، ونادى بفن واقعي للواقع، على شاكلة أفلام أخرجها مورنا وشتروهايم وويلز. يقدم كتاب بازان «سينما القسوة» تلميذه المخرج فرنسوا تروفو الذي صحح له بازان أول مقال كتبه في «دفاتر السينما» وسار به، تدريجياً، إلى إخراج «الضربات 300» أول فيلم أعلن ميلاد «الموجة الجديدة».

كتاب عن ستة مخرجين في ستة فصول، يضم مقالات ودراسات سبق أن نُشرت، ما بين العامين 1945 و.1958 وأهمية صدور الكتاب تأتي من أهمية المخرجين الذين امتلك كل منهم أسلوباً متميزاً ووجهة نظر انقلابية، ولعب كل منهم دوراً مؤثراً في تاريخ السينما: إيريك فون شتروهايم، رمز السينما الملعونة: مبدع الجحيم، وصاحب أفلام المخيلة الوحيدة، التي انتقلت عبرها الواقعية إلى كمالها.

وكارل دراير، عارف الطبيعة والإنسان، الذي عبر في فيلمه «آلام جان دارك ـ 1928» عن مأساة بطلته الروحية، وابتكر فيلماً يتكوّن بكامله، باستثناء بعض صوره، من أحجام لقطات قريبة، تعبر عن الجزء المُميز من الجسد: الوجه.

وبريستون ستورغيس، مازج الفكاهة والقسوة الذي قدم قصة الكوميدي الكبير هارولد لويد، وكشف، بطريقة قاسية وشبه وقحة، نهاية الصنم المنتصب، الذي أراد أن يكرّم دوره، بذكاء أكثر، في مجال السينما الكوميدية الأميركية. ويبدو كأنه أراد أن يقول لنا «اضحكوا مرة أخرى، اضحكوا جيداً، لكنها ستكون ضحكتكم الأخيرة، لأنكم تضحكون بسبب موت الضحكة».

ولويس بونويل، اليساري السوريالي القاسي الذي من العبث أن نتهمه بالقسوة، فقسوته في فيلم «المنسيون» مثلاً، ليست قسوة المخرج نفسه، بل أنه يكشفها فقط للعالم، ويختار منها البشاعة الأكثر، ليعبر عن الشقاء الإنساني. ومثلما تعكس قسوته حنانه، فإن غرابته تعبر عن بساطة شديدة، تسبب الدوار. فلو تسنى لبونويل أن يحقق الأفلام التي تتفق مع رغبته، لاحترقت الشاشة منذ العرض الأول.

وألفريد هتشكوك، عاشق السينما لذاتها، والذي أعطى المونتاج التقليدي طابعه غير المألوف وابتكر تأثيراته النادرة، هو سيد الترقّب، فهو يطلق عبر السادية البليغة، المتعارف عليها وسط صرخات رعب الضحايا، صرخة للمتعة الحقيقية، صرخة ليس فيها أي خداع: إنها صرخة هتشكوك.

وأكيرا كوروساوا : ساموراي السينما، صاحب «راشومان» الذي يكشف بازان نبوغه السينمائي الوطنيً، رغم تأثره بالسينما الأميركية، لأنه استطاع أن يقدم صورة للتقاليد وللثقافة في اليابان بطريقة قادرة على الوصول إلى أعيننا وأرواحنا. ولأن نقاد «دفاتر السينما» جعلوا من كوروساوا ضحيتهم، وفضلوا عليه المخرج الشاعري ميزوغوشي، فقد كتب بازان رسالة إلى تروفو يقول «هل يمكن أن نصل إلى معرفة النهار ونحن لا نعرف الليل، إن من يُفضل كوروساوا ليس سوى أعمى لا علاج له، لكن من لا يحب سوى ميزوغوشي فهو اعور!». الكتاب من إصدار مؤسسة السينما ـ دمشق ـ سلسلة الفن السابع (171) ومن ترجمة مدهشة للمخرج مروان حداد.

alzubaidi0@gmail.com

تويتر