موسم الهجرة إلى القصة القصيرة
أخيراً، انتبه المثقفون والكتاب والأدباء إلى هذا الفن المعجز، وأخيراً، اعترفوا بأنه لم يُهزم، ولم يتوارَ، ولم ينحنِ أمام عواصف الرواية وقصيدة النثر، وأخيراً، يقرون باسمها الصريح وما له من دلالات، من دون إقحام لتنويعات ثانوية.
هاجر كثيرون إلى الرواية، والنص المفتوح، وما إلى ذلك من تسميات لأجناس، بعضها موجود والآخر وهمي أو مفترض، أو موجود باعتبار ما سوف يكون، لا باعتبار ما هو كائن. ولكن قلة صمدت، لا ضد الرواية أو قصيدة النثر، بل مع القصة فحسب. فالأجناس لا تتصارع كي يلغي أحدها الآخر، بمقدار ما تتنافس كي تفتح آفاقاً جديدة في العملية الإبداعية.
كانت القصة هي المبتدأ، كانت خبراً يتم نقله في رسالة نصية شفوية دعيت حكاية بادئ الأمر، ثم كتبت، فتحولت نصاً فنياً لم تغادره الحكاية، ولكنه حمل ثماراً جمالية وأبعاداً معرفية وراء الخبر.
وحين جرى تهميش هذا الجنس الأدبي أخيراً، وتم التركيز على أجناس أخرى في خلال ملتقيات ومؤتمرات وجوائز هائلة، تطوع البعض لنعي القصة القصيرة، ولم يتقبل العزاء.
وفجأة، يعقد في الأردن ملتقيان للقصة القصيرة، ثم يتبعهما ملتقى أكبر في القاهرة، كأنما هنالك رغبة في التكفير عن الخطايا التي كانت تكمن في صدور البعض. وعلى الرغم من هذه الملتقيات، إلا أن هنالك من يشكك في سر ظهورها دفعة واحدة، إلى الحد الذي دفع كاتبا إلى القول: إنها دعوات لتكفين القصة القصيرة، خصوصاً أن هذه الملتقيات لاتزال تصر على مناقشة الجنس وراهنه ومشروعيته ومصيره المرتقب.
ولكننا لا نخشى على القصة من ذلك كله، فثمة كُتاب في العالم كله، لايزالون مهتمين فقط بالقصة القصيرة، وهو ما ينسحب على العالم العربي.
والاهتمام بالقصة ليس اهتماماً اعتباطياً أو عشوائياً، بمقدار ما هو فهم عميق لمفهوم القصة القصيرة وجدواها ودورها وجمالياتها. فما يمكن التعبير عنه في القصة القصيرة في أغلب الأحيان، لا يمكن التعبير عنه جوهرياً في جنس آخر كالرواية والسيرة مثلاً. أي ان ثمة خصائص للقصة القصيرة تحتم وجود هذا الجنس واستمراريته والاهتمام به، إلى أن يشهد المجتمع تحولات جذرية في بنيته ومفاهيمه المعرفية والجمالية، تحتم تحويل هذا الجنس إلى جنس آخر. كما حدث للأسطورة والملحمة عبر التاريخ. أما الآن، ففي استطاعة القصة القصيرة، بما تتميز به من تكثيف وتركيز على فكرة محددة، أن تظل جنساً قائماً وضرورياً بين الأجناس الأخرى، لا تابعاً ولا قائداً. وفي هذه الحال لن تتحول القصة القصيرة إلى مجرد تمرين أو تدريب على كتابة الرواية، كما أخذ البعض يفهم الأمر أخيراً. حيث لاحظنا أن هنالك من يكتب مجموعة أو اثنتين ثم يهاجر حاملاً عدة القصة القصيرة إلى عالم الرواية. وهو ما يوجد خلطاً بيّناً بين القصة الطويلة والرواية وما يصطلح على تسميته الآن بـ«النوفيلا».
لا نريد الاستهانة بجنس لصالح آخر، ولا نريد مهرجانات لجنس على حساب آخر، فالأجناس كلها تتضافر كي تقدم معالجات ومساءلات للواقع والمفاهيم والقيم، ويبدو أن هذا ما أدركه كثيرون أخيرا، ما جعلنا نشهد هجرة معاكسة إلى عالم القصة القصيرة.