هذا اليقين المرعب

لا أعرف من أين يأتي البعض بكل هذا اليقين، ولا أعرف كيف يجرؤ الواحد منا على تقرير شيء ما كحقيقة مطلقة، ثم يبني عليها النتائج التي يحب. ولا أعرف كيف نستمع إلى رأيين متناقضين في حلقة حوار واحدة، وكل من الرأيين يدّعي الحكمة والتشوف والاستشراف.

كيف يخرج أحد المثقفين ليعلن أن القصة ماتت، وآخر أن المستقبل لن يكون إلا للقصة، وثالث أن الـ«نوفيللا» هي مستقبل الكتابة، ورابع أن الرواية لم تحقق حلمها، ما يعني حكماً بإعدامها.

هل أصبحنا مهووسين باليقين إلى هذا الحد؟ وهل خلت جعبة الكتاب والأدباء والمثقفين من سهام الشك؟ وهل ثمة عالم حي وحقيقي من دون شكوك تطال الظاهر والباطن؟ الحاضر والماضي والمستقبل؟ ألا نشك في تاريخنا؟ أفلا نجهل مستقبلنا؟ ألا نتخبط في حاضرنا؟ فكيف يتسنى لبعضنا أن يخرج على الملأ شاهراً أيقونة اليقين لامعة وبراقة تعمي الأبصار؟

لا يستقيم هذا الواقع الذي نشير إليه، إلا في سياق تفكير ميتافيزيقي، بصرف النظر عن طبيعة هذه الميتافيزيقيا. والميتافيزيقيا هي أيديولوجيا الحالمين بالحتميات التاريخية والأبدية، السائرين الهوينا إلى فردوس وهمي.

علّمنا التاريخ أن الجنس الأدبي لا يموت، ولكنه يتحول أحياناً إلى جنس جديد. وقد علّمنا التاريخ أيضاً أن الفرضيات اليقينية لا يمكن اعتمادها إلا كاحتمالات ممكنة وغير ممكنة. وقد علّمنا التاريخ أن الصراعات بين الأجناس والأنواع قائمة ومستمرة إلى ما لانهاية، وأن التراتبية القائمة في لحظة زمنية ليست تراتبية أبدية في أي حال من الأحوال.

مشكلتنا تكمن في هذا التباهي الغريب بامتلاك الحقيقة واليقين المطلقين، تماماً كالضارب في الرمل أو قارئة الفنجان أو متهجي الكف الذي يعد الإشارات ويعلنها تاريخاً رسمياً في مستقبل شخص ما. ومشكلتنا أننا أبناء بنية اجتماعية ذات سياقات بالغة الضيق. ومشكلتنا أننا غير مستعدين بعد لتقبل الرأي الآخر، والفكرة الأخرى، والقيمة الأخرى. ومشكلتنا أننا من أكثر الناس قدرة على إقصاء الآخر وتهميشه وتسخيف معتقداته وأفكاره ومفاهيمه. ومشكلتنا أننا لا نتوقف كي نراجع ذواتنا، وما اقترفته من حماقات أو نزوات مفاهيمية.

ولكن السبب الرئيس وراء هذا كله يتعين في كوننا لم نتقبل ثقافة الديمقراطية الحقة. ولعل المثقفين هم من أكثر الناس محاربة للديمقراطية، خصوصاً حين يلتزمون أو يقيدون أنفسهم بأيديولوجيات محددة. فالأيديولوجيا نقيض الديمقراطية، ولا يستطيع أحد أن يقنعنا أن ثمة أيديولوجيا ما، لا تنطوي على إقصاء الآخر وإلغائه وتدمير حضوره. والمثقفون العرب هم من أكثر المثقفين في العالم ولعاً بالأيديولوجيا، لأنها كانت وحتى وقت قريب هي الرافعة الأقوى لهؤلاء المثقفين في الشارع العربي.

هذا اليقين المرعب، هو الابن الشرعي لثقافة أنتجها عقل يحب السهولة والبساطة واليسر وعدم البحث والتدقيق سعياً وراء المعرفة. وهو الأمر الذي يطيح بالشك جانباً، على الرغم من أن العلوم كلها قامت على مبدأ الشك. ولولا هذا الشك لاستكانت البشرية إلى هرطقات الأولين وتخرصاتهم، التي بها أقاموا سلطاتهم ودامت قروناً من السنوات. كل ما نريده فقط، هو أن نسمح للعقل بالانطلاق إلى الآفاق الرحبة التي يحب التحليق فيها.

damra1953@yahoo.com

الأكثر مشاركة