الساسة وفضيحة السيرة

خليل قنديل

تبدو كتابة السيرة الذاتية كأنها فعل ولادة جديدة لصاحبها من حيث قدرتها على إعادة تحبير حياة صاحبها من جديد، وبعثه مرئياً لدى القراء، وجعل سيرة هذه الحياة تبدو حافزاً حقيقياً لإيقاظ الفضول في عين القارئ، والاستفادة إلى أقصى حد من المختبئ والمسكوت عنه في الشخصية التي تجرؤ على كتابة سيرتها.

وظلت كتابة السيرة الذاتية مرتبطة عربياً بضرورة أن يكون صاحبها مبدعاً في مجالات الكتابة الإبداعية. وبالمقابل ظلّ الكاتب العربي يهرب من مواجهة القراء بكتابة جريئة عن سيرته الذاتية، وباستثناءات قليلة لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة يمكن الجزم بأن الكاتب العربي يهرب من كتابة سيرته الذاتية بصهر هذه السيرة وسكبها في قناته الإبداعية. فكثير من الإبداعات الروائية والقصصية العربية لو قمنا بتعريتها وتفكيكها نقدياً سنجد أنها إعادة لسرد مكنونات حياة المبدع ذاته.

ويمكن قبول هذا التوجه عربياً باعتباره أصبح من الأمراض المزمنة في الكتابة العربية التي تدلل على شُح المخيال عند الكاتب العربي، لكن الأمر يكشف عن خسارتنا المعرفية العربية في هذا الجانب حين نكتشف أن العربي عموماً يتحاشى كتابة سيرته الذاتية وتسويقها في كتاب، معتبراً ذلك ضرباً من ضروب الفضائحية وتعرية الذات.

ويبلغ الذعر الفضائحي عند المبدع العربي أحياناً إلى درجة أنه ينوه في مطلع روايته بتلك العبارة السمجة حضارياً، بقوله «إن أي تشابه بين شخصيات هذه الرواية والواقع هو تشابه غير مقصود»، وذلك خوفاً من أن تقع كتاباته تحت طائلة المعاينة بين حياته الشخصية والحياة المقترحة في روايته.

والذعر العربي تجاه كتابة السير الذاتية لا ينطبق على الكتّاب وحدهم، بل ينطبق على كل الرواد المشاهير في الصنوف المعرفية والسياسية والاقتصادية كافة، على ما تحمله تجارب هؤلاء من خبرة حياتية ومن أسرار تظل الأجيال اللاحقة بحاجة ماسة إليها.

فالسياسي العربي الذي أسس للدولة العربية الحديثة وعاش كل أوجاع تكوين هذه الدولة ومنعطفاتها التاريخية وتجريحاتها التي مازلنا نسدد ضرائبها حتى هذه اللحظة، يبدأ بالانسحاب التدريجي مع تقدمه في العمر كي يرتع في تقاعده وشيخوخته المدللة، رافضاً أن يخط حرفاً يبوح من خلاله بالتاريخ السياسي الذي أسهم في إنتاجه. وفي الوقت الذي تغتني فيه المكتبة في العالم الغربي بشتى صنوف السير الذاتية للساسة والمفكرين ونجوم الفن، فإن المكتبة العربية تفتقر حقاً إلى كتابة من هذا النوع. فالسياسي الغربي الذي يفتقر إلى براعة الكتابة وفنها يستدعي المحرر الصحافي البارع ويملي عليه كتابة سيرته الذاتية، ولا يخجل من البوح بأي تفصيل يمس حياته العامة والخاصة.

إن افتقار المكتبة العربية إلى كتب السير الذاتية التي تخص كبار الساسة والزعماء والقادة العرب يُعد كارثة حقيقية تعبر عن فقر حقيقي ستعاني منه الأجيال المقبلة التي لن تجد أمامها السبيل الحقيقي الذي من الممكن أن يقودها إلى معرفة الخصوصية التي صنعت كل هؤلاء وتوجتهم زعماء لمراحل سياسية عديدة.

إن السرية التي تجعل السياسي العربي يهرب من كتابة سيرته الذاتية ونشرها على الملأ، تشكل الدليل القاطع على عدم سوية هذا السياسي مثلما تدلل على شراكته الكاملة في كل الأحداث الكارثية التي نعيشها من المحيط إلى الخليج.

 

khaleilq@yahoo.com

تويتر