المآذن والدلائل

المآذن ليست إلا دلائل واضحة، ومعالم لامعة، على المساجد التي أذن الله تعالى أن ترفع، ويذكر فيها اسمه، يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وليست المآذن محلاً للصلاة ولا للذكر أو الاعتكاف، فالإسلام أوسع مدى من أن يحصره مكان أو زمان، إذْ الأرض كلها مسجد وطهور للمسلم، فلا يمنعه من عبادة ربه وطاعته مانع، وقد انتشر في الخافقين، وشع نوره في المشرقين، وحيثما حل أهله عبدوا وسجدوا وذكروا الله كثيراً وسبحوه بكرة وأصيلاً، فعمروا الأرض بطاعة الله، وأصلحوا ما يفسده الآدميون، ولم تُبن المآذن إلا في عصر الحضارة والعمارة الإسلامية الراقية، فهي من البدع الإسلامية المستحبة؛ لما فيها من الدلالة على الخير، لذلك لا نرى للمآذن كبير أثر، سواء وجدت أم منعت، إذا بقيت المساجد ووجد زوارها. غير أن حظرها في دولة أو أخرى يعطي مؤشرات قاتمة، فهو لا يتفق والحرية الدينية التي قامت عليها الديمقراطية الغربية الحديثة، والتي يمجدها عالمنا بملء فيه. ولا يتفق وحرية التعبير التي كفلتها قوانينهم، فالتعبير بالإشارة كالتعبير بالعبارة، ولطالما غالطوا يوم أن عبروا برسوماتهم السخيفة عما تخفيه صدورهم من الشحناء والبغضاء. ولا يتفق والمعاملة بالمثل التي يفتح المسلمون لها الأبواب مشرعة يخطبون فيها ودّهم. فما الداعي لحظرها ونحن نريد أن نتسامح ونريهم ما لدينا من خير ونفع ولو من باب التواصل الحضاري؟! فالمآذن لديهم لا ترتفع فيها كلمة الحق صادحة في الأوقات الخمسة؛ احتراماً لخصوصياتهم، بينما أبواق البِيَع لا تهدأ، ونواقيس الكنائس لا تفتر، وليكن هذا ما يُعبر عنه المثل الشعبي السائر «حكم بني مطر في سوقهم». فليحكموا ما شاءوا، فلن يُضيرنا ذلك من قريب ولا من بعيد.. إلا أننا نستفيد من ذلك فوائد نحن عنها في غفلة معرضون. أولها: أن الحرية الدينية لديهم هي مجرد دعوى يكذبها الواقع كثيراً، وإن صدقت في بعض صورها، إلا أنها محاطة برغبات أصحاب النفوذ لا ريب. ثانيها: أن الديمقراطية الغربية تفسد أكثر مما تصلح، فما قيمة قانون يحكم البلاد تغيرها في ضحوة من نهار أصوات المفسدين الذين لا هَم لهم إلا أن يعكروا صفو الحياة تبعاً لأهوائهم. ثالثها: أننا نخطئ كثيراً حينما نعول على عدالة أحكامهم، فالعدالة في مفهومهم لا وجود لها إذا تقاطعت مع مصلحة الأقوياء، وهذا الشعب الفلسطيني المظلوم المطرود من دياره وأرضه خير برهان. رابعها، وهو الأهم في نظري، أن علينا أن نعيد ترتيب صورتنا كأمة مسلمة عند غيرنا، فقد تغيرت صورتنا، ونحن أمة هادية، إلى طامعة، وفاتحة إلى غازية، ومسالمة إلى مرهبة. كل ذلك بما حدث من ضلالة الجهلاء، وبلادة الحمقى، وسُخف السفهاء من أبناء المسلمين يوم أن تطاولوا على قيمنا الإسلامية، ففجروا وسفكوا الدماء، ما جعل الكل يرى الإسلام على غير وجهه وحقيقته، وما علموا أن الإسلام بريء من ذلك براءة الذئب من قميص يوسف، فالواجب أن يعود تصوير الإسلام الذي هو نور الله في الأرض بوجهه المشرق، الذي يفتح القلوب قبل الأعين، ويسمع العقول قبل الآذان، كما فعل أولئك الأمجاد الذين فتحوا شرق آسيا الكبيرة بمنهج النبوة الناصع إشراقاً، والمفعم رحمة، فأضحت تلك الديار رمزاً لمجد الإسلام في البشرية، والدعوة المحمدية.

❊كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي

الأكثر مشاركة