تثقيف التظاهرات
لم تعد التظاهرات في العالم تحمل تلك الشعارات الكلاسيكية التي ظلت تؤسس لها القيادات التنظيمية والحزبية في دول العالم إلى ما يزيد على قرن. ولم تعد الشعارات التنديدية بالمحتل الغاشم أو بالاستعمار الناهب للثروات أو الدعوة لإسقاط القيادات الخائنة هي الملمح المميز لتشكيل التظاهرات الجماهيرية أو التأسيس لمطالب الشعوب. ولعل السبب يعود إلى أن آليات التظاهر، وسط تفشي ثورة الصورة، وانتقال الحادثة الجماعية في لحظة إلى الاستطالة الحمراء التي تدلل على الخبر العاجل، التي تبثها الفضائيات لحظة وقوع الحادثة التي تستدعي التظاهر والتنديد. وإذا أردنا أن نحفر في عمق حادثة التظاهرات أكثر من ذلك، نقول إن ثمة تغيّرات في الفعل الدولي أخذت تترك آثارها في الوعي بالمخاطر المقبلة على شعوب الأرض.
والغريب أن فكرة الوعي بالتظاهرات باتت تدلل على مستوى الوعي وفارق الإدراك بين الشعوب تجاه المخاطر المقبلة، التي تحيق بمستقبل هذه الشعوب. فالقضية التي تكون قادرة على إخراج الجمهور الفرنسي أو الأميركي من بيته بهدف التظاهر لا يمكن أن تتشابه مع القضية التي تجعل ابن دول العالم الثالث يخرج من بيته كي يعتصم ويتظاهر.
ففي الوقت الذي لا يثير خبر فوز الرئيس الأميركي بجائزة «نوبل» للسلام أي جهة في دول العالم الثالث، ولا يدفعها للخروج إلى الشارع للتنديد بالجائزة وصاحبها، فقد تظاهر نحو 10 آلاف شخص قبل أيام في «أوسلو» بعد ساعات على تسلم الرئيس الأميركي باراك أوباما جائزة «نوبل» في هذه المدينة. إضافة إلى تظاهر أكثر من 6000 شخص ضد الأسلحة النووية سلمياً وعلى ضوء المشاعيل حتى محيط الفندق الذي ينزل فيه أوباما. كما تظاهر 3000 شخص مطالبين خصوصاً بإنهاء الحرب في أفغانستان والمستوطنات في الضفة الغربية. ولأن المنظمات المدنية الطوعية تعي دورها الحضاري في نشر «الوعي التظاهراتي» بين الشعوب، فإنها تعمل بنشاط وهمّة منقطعي النظير في قضايا لها علاقة بالدفاع عن الإنسان أينما كان موقعه، والدفاع حتى عن الحيوان، والعمل على عدم انقراضه، والدفاع عن البيئة الأرضية. وبسبب هذا النوع من الوعي عند هذه التجمعات التنظيمية الغربية، فإنها تشقى ليل نهار في التعبئة الجماهيرية ودعوتها للقيام بتظاهرات وهي متأكدة من ثقافة الصورة والتواصل عبر الإنترنت، وجوع الفضائيات، وحمى وكالات الأنباء سوف تساعدها على تثبيت مطالبها وتعميم الوعي بتظاهراتها عالمياً.
وخلا مؤتمر المناخ الذي عقد في العاصمة الدنماركية كوبنهاغن، استطاعت المنظمات الأهلية المدنية تجنيد أكثر من 10 آلاف متظاهر وإرسالهم الى موقع المؤتمر في كوبنهاغن، كي يهتفوا ضد الارتخاء الدولي في التعامل مع قضية خطيرة مثل قضية المناخ والاحتباس الحراري، وما ستخلفه بعد 50 عاماً من فيضانات وكوارث. والهتاف ضد بعض المليارات التي ستتصدق بها الدول الكبرى على دول العالم الثالث التي ستتضرر من التداعيات المناخية.
إن هذا الوعي بنوعية التظاهر ضد ما يمس الشعوب، أخذ يشكل فرقاً حضارياً بين التظاهرات اليافطية الساذجة التي تقوم بها شعوب دول العالم الثالث والعرب تحديداً، وبين تلك الشعوب التي صارت تعي مصالحها، وتقوم بالعمل على تأسيس الجهات المدنية التي صارت قادرة على جعل قيادات العالم تهابها وتحسب لها ألف حساب.