وعي الكتابة
يقول الشاعرالإسباني الراحل رافائيل البرتي في كتاب سيرته الذاتية «الغابة الضائعة»: «لست من ذلك النمط من الشعراء ـ المتوافر اليوم أكثر من أي وقت آخر ـ والذي لايستطيع التمييز بين شقائق النعمان وزهور الإقحوان، ويجهل زهرة الفلايدوس أو حتى زهور العناقية التي تطرز الأسيجة، فقد تعلمت كيفية تمييزها على الطبيعة، وحفظت أسماء كثيرة لزهور وأشجار ونباتات بعد فترة قصيرة من تعلمي القراءة، وكانت أمي الأندلسية المبتلاة بالعشق الشعبي السائد للحدائق والشرفات المعلقة المزدحمة بأصص النباتات هي التي لقنتني أسماءها».
آثرت أن آخذ هذه المستلة القصيرة من كتاب الشاعر «البرتي» كي أمهد للحديث عن الأُمية التي يعاني منها الشاعر العربي، خصوصاً والكاتب العربي عموماً، والبخل المعرفي الذي يميزه في كتابته السردية أو حتى الشعرية في الوعي العميق بالأسماء والمسميات.
إن هذا الوعي العشبي بالأزهار وأنواع الأشجار الذي تلقاه البرتي من أمه قبل تعلمه القراءة، عمل على تشييد مخيلة خارقة في التعبير الشعري عن المكنون النائم في هذه العناصر وإيقاظه لحظة تشكيل القصيدة ونطقها. ومن يقرأ كتاب «الغابة الضائعة» للشاعر البرتي سيرى حجم هذا الوعي السري المتفجر شعراً في مزاوجة الحدس الشعري بالنباتات والأعشاب والأشجار وتقلب المناخات عليها.
إن الكتابة العربية المتورمة بالجملة الإنشائية الوصفية تتخذ سماكة سلحفائية كي تعفى من التمحيص عن الحجم المعرفي القائم خلف هذا النطق الإبداعي. فأنت أمام العديد من القصائد التي تتشكل بنوع من الإقامة في المساحة اللغوية والإنشاء البعيدين عن التطرق إلى العناصر الطبيعية المحيطة بالشاعر.
ولهذا يسهل على الشاعر العربي على الأغلب استعمال مفردات مثل الغسق والغروب والدجى والأفق والطيور. فمن العادي جداً أن يكتب بعض الشعراء العرب عن البحر مثلاً من دون أن يكون قد رآه إلا في رحلة مدرسية عابرة. ومن العادي جداً أيضاً أن يكتب الشاعر العربي عن النورس مثلاً علماً بأن أكبر مساحة مائية شاهدها في حياته هي مساحة البانيو الذي يستحم به. والأمر ذاته ينطبق على الشاعر الذي لم يجاور نهراً ويظل يكتب عن الصفصاف.
وقد نسي هؤلاء الكتبة أن الوعي بعناصر الأرض والطبيعة التي نقيم فيها وعليها قادرة في لحظة الوعي بها معرفياً وتفصيلياً أن تؤجج المخيال الشعري وتخلق مسمى جديداً لأي عنصر من هذه العناصر. وإن الوعي بالمسميات التي تحيط بالشاعر من أراض وبحار وأنهار ونباتات وأشجار ومناخات متقلبة يجعل هذا الشاعر يقف هو وقصيدته بندية معرفية تجعله يضفي عليها جميعها لمسته الشعرية الآسرة.
وفي الرسائل التي كان يتبادلها الروائي مكسيم غوركي مع إنطوان تشيخوف أرسل غوركي قصة قصيرة يصف فيها المطر قبل وقوعه في صفحات عدة. وحينما قرأها تشيخوف رد عليه برسالة قصيرة قائلاً «لمّ تأخذ كل هذا الوقت في وصف كيفية حدوث المطر، كل الناس ياعزيزي تعرف كيف تمطر السماء. وكان علينا أن تكتفي بالقول (لقد امطرت السماء) وهذا يكفي».
إننا إزاء هذا الكم الحبري العربي السائل في مطابعنا العربية وفي الكتب التي تتخمنا بها دور النشر العربية بحاجة ماسة إلى وصفة تشيخوف ووصفة البرتي في تعلم الوعي في الطبيعة وعناصرها قبل أن نكتب ونغرق في كل هذا الإنشاء المًفرغ من الوعي بالطبيعة وعناصرها.